04-أغسطس-2021

كاريكاتير لـ شريف عرفة/ مصر

نستميت في محاولة الخروج. نركب قوارب الموت ونقطع بحارًا مترعة بجثث الكثير ممن سبقونا. نفر من الحرب، الجوع، غياب الأمل، انتفاء أسباب الحياة.. من مدن وقرى تعيش على مدار الساعة طقوس رعب مجنون، من هواء مضمخ برائحة الدم وساحات مليئة بالقبور، من شوارع مترعة بالقمامة وضاجة باستغاثات الجائعين وصرخات المكلومين، من صحراء تمعن في حصارنا، من جراد بتنا معتادين على انتظار غزواته المنتظمة، من بشر صاروا كالجراد يتوعدون بأكلنا بعد أن أتوا على أخضرنا ويابسنا.

مفهوم ذلك الحنين، لكن من غير المفهوم أن يضطر إلى تزييف صور وذكريات، وإلى اختلاق أنهار من عدم، وتحويل أكوام القمامة إلى تلال ياسمين

وما إن نصل إلى الضفة الأخرى حتى يقتلنا الحنين، فتهطل أشعارنا وأغانينا عن ذلك الفردوس المفقود: بلاد تقطعها الأنهار العذبة طولًا وعرضًا، مترعة بأشجار المشمش والخوخ والرمان، تظلل شوارعها شجيرات الياسمين، ولا تمل فيها العصافير من الغناء!

اقرأ/ي أيضًا: كل المحال مغلقة في شارع الحمرا

مفهوم هذا الحنين إلى مسقط الرأس، ملاعب الصبا، الأهل والجيرة، ووجوه حبيبة.. ولكن من غير المفهوم أن يضطر الحنين إلى تزييف صور وذكريات، وإلى اختلاق أنهار من عدم، وتحويل أكوام القمامة إلى تلال من جوري وياسمين.

هل لأننا أدمنا هذا الغناء المليء بالكليشات الممجوجة والمحفوظات الساذجة، فلا يفلح سفر سنين في أن ينسينا إياه؟ أم لأن واقعنا، واقعنا الواقعي، قاحل إلى حد لا يصلح معه أن يكون مادة للحنين؟

*

 

صيف قائظ. الشمس التي لا ترحم ذهبت بالكهرباء والماء وبما تبقى من صواب في الرؤوس. واشتعلت معارك صغيرة، ولكن شرسة، في كل مكان.. في الشوارع خلف صهاريج مياه الشرب، وعلى الأسطح دفاعًا عن خزانات مياه الغسيل، وفي الأقبية ذودًا عن المضخات والمولدات الكهربائية. حرب كالتي وصفها توماس هوبز (أو تخيلها)، حيث الجميع ضد الجميع، وليس ثمة إلا الأنا الجائعة، والمصلحة الفردية العارية.. ليس إلا غريزة البقاء.

جيراني في البناية (العمارة) وأنا تابعنا جلساتنا المسائية على السطوح، ولأننا ممن يصفهم الفهم الشائع بـ "المثقفين"، (مهندس ومدرس ومحام وصحفي...)، فقد شعرنا أنه يتوجب علينا النقاش والتحليل والتفسير ومعرفة الجذور، فكانت أسماء لامعة وعناوين كتب ثقيلة تحضر في جلساتنا: ماركس، فرويد، غوستاف لوبون، طبائع الاستبداد، سيكولوجيا الجماهير، سيكولوجيا الإنسان المقهور..

وقبل أن نستنفد مخزوننا من الأسماء والمقبوسات، كانت حرب البقاء قد وصلت إلى بنايتنا. اثنان من أعضاء نادي السطوح الثقافي تعاركا أمام خزان الجار الذي هاجر مؤخرًا تاركًا في خزانه حفنة من مياه لم يتح له الوقت لسفحها. وبالطبع كانت الغلبة لصاحب اليد الطولى (الطولى حرفيًا لا مجازًا)، ما دفع المهزوم إلى الانتقام في اليوم التالي بأن أفرغ خزان المنتصر حتى آخر نقطة. وما كادت معركة الخزانات تهدأ في الأعلى، حتى انطلقت معركة المضخات في الأسفل.. وشيئا فشيئًا كنا جميعًا قد انخرطنا في الصراع، بدلائنا ومفكاتنا وعصي مكانسنا وقبضاتنا المتحفزة..

سوف نتساءل كم هي هشة "البنية الفوقية" في بلاد كبلادنا، وكم هي رقيقة تلك القشرة التي يختبئ تحتها أسلافنا السحيقون بغرائزهم الصريحة وبلطاتهم المسنونة المقدودة من حجر؟!

عندما ينقشع غبار المعارك، سنعود إلى جلساتنا على السطوح، وعلى الأرجح سنناقش أولًا "هرم ماسلو"، وكيف تتبخر الكلمات والأفكار وتجدب المقبوسات حالما نقف وجهًا لوجه أمام الجوع والعطش. وسوف نتساءل كم هي هشة "البنية الفوقية" في بلاد كبلادنا، وكم هي رقيقة تلك القشرة التي يختبئ تحتها أسلافنا السحيقون بغرائزهم الصريحة وبلطاتهم المسنونة المقدودة من حجر؟! سنقول لبعضنا ولأنفسنا: هنا والآن ما أقربنا إلى القاع.. ما أسرعنا في الهبوط.

*

 

تشبثتُ به ما استطعت. استحضرت جميع محفوظاتي محاولًا إقناعه بالبقاء. قلت له إن الوقت تأخر على الهجرة، وإنه سوف يكون وحيدًا هناك، وإن الحنين إلينا سوف يذبحه. لم أكن أنا نفسي مقتنعًا بأي من كلماتي، ولكنه كان ونيسي الأخير هنا. هددته بعبارة من قصيدة شهيرة لكافافي: "وإذا كنتَ قد دمرت حياتك هنا فقد دمرتها في كل مكان".

اقرأ/ي أيضًا: مماليك ومستعبدون

رحل، فودعته بنظرات ادعت اللامبالاة. ومضت سنة، ومنذ أيام أرسل لي كلمتين على "الواتساب": "كافافي مخطئ". ثم مقبوس من الشاعرة التشيكية فيرا لينارتوفا: "أملك الحق في قول إن منفاي حقق ما كان منذ الأزل أغلى رغباتي: العيش في مكان آخر".

 

اقرأ/ي أيضًا:

فرض الكفاية عين

الحياة القديمة مفتاح الحياة الجديدة