29-مارس-2018

من مخطوطات طوق الحمامة

يقال إنّ العرب لم يخلطوا أبدا بين الحب والجنس، أو المحبة والاشتهاء، وإنهم نزّهوا العاطفة عن رغبة الجسد، بل إنهم كانوا يعتقدون أن الحب يفسده النكاح، ويقضي عليه، حتى أن أعرابية قالت ذات مرة تعلّق على وصف قيل لها عن أحد العشاق: "ما هذا عاشق بل طالب ولد". وقال أعرابي آخر تعليقًا على الفعل الجنسي: "هذا ما لا نفعله بالعدو فكيف بالصديق؟".

قالت أعرابية تعلّق على وصف قيل لها عن أحد العشاق: "ما هذا عاشق بل طالب ولد"

هذه صورة شائعة ولا شك، لكن فيها الكثير من السذاجة التي ترى انتهاء الحب في التراث العربي بوصل الجسد، إلى الحد الذي صُور فيها العاشق يسعى إلى حبيبته ويتمنى – دون وعي منه- ألا يتم هذا الزواج.  فهل تبنى تراثنا العربي فكرة العذرية في الحب؟ وهل حقًا رأى كثيرون ممن كتبوا عن الحب أنه ينتهى بفورة المشاعر وبارتواء الجسد؟

اقرأ/ي أيضًا: صادق جلال العظم.. تفكيك الحب

المحبة والاشتهاء.. بين سطور العرب

حين وُجّه السؤال إلى أبي حيان التوحيدي عن الفرق بين المحبة والشهوة، أجاب فيما ورد في كتاب "الإمتاع والمؤانسة": "بأن الشهوة ألصق بالطبيعة، أما المحبة فإنها أصدر عن النفس الفاضلة وهما انفعالان، إلا أن أحد الانفعالين أشد تأثرًا، وهو انفعال الشهوة، وأنهما يتداخلان كثيرًا بالاستعمال، لأن اللغة جارية على التوسع".

يتفحص الباحث قصص ابن عجلان، وقيس بن ذريح، ومجنون بني عامر، فيجد مثلًا في قصة ابن عجلان صاحب هند التي كان يحبها لكنها لا تنجب، فضغط عليه أبوه ليطلقها، فأحس اللوعة والندم وعذاب الفراق، وحاول التراجع لكن هيهات. وجاء في الكتب أنه "مرض ولقاها عند زوجها الجديد، كما التقى المجنون بليلى في منازل ورد، ولاحقًا ماتا معًا".

لعل المؤرخين لم يضموا قصة ابن عجلان لأصحاب الحب العذري، لأنه تزوج وخالف غيره من العشاق، رغم كل ما لاقاه من عذاب لاحقاً، لكنه لم يُخلّد كالمجنون وصاحبته.

بيد أن الحقيقة تتبدى في أن العرب خلال تراثهم في الجاهلية وما بعد الإسلام اعترفوا بالرغبة الجسدية وطبيعيتها وتأثيرها على العاطفة، وأنها لا تنتقص من نقاء الحب. وقد رويت عن فضليات النساء وزوجات المشاهير في الجاهلية، وحتى في الإسلام، أخبارٌ وقصصٌ تؤكد سيطرة النزعة الجنسية على العلاقات الثنائية، ولم تكن إحداهن ترى في ذلك مساسًا بالشرف ما دامت تصير إلى من تحب في النهاية زوجًا.

يحكي الأصفهاني، على سبيل المثال، قصة عائشة بن طلحة التي كانت من أشراف قريش من قبيلة بني تيم، حين قتل زوجها مصعب بن الزبير (الزوج الثاني) أن عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وهو تيمي مثلها، أرسل لها مع جارية يقرئها السلام ويقول لها: "أنا ابن عمك وأحق بك وإن تزوجت بك ملأت بيتك خيرًا" فتزوجته.

لا يتردد الأصفهاني في وصف ليلة الزفاف فيذكر كيف قدم عمر، فوجد خوانًا عليه طعامًا، فأكل كل ما عليه، ثم صلى فأطال الصلاة، ثم دخل على عروسه، ثم ينقل لنا ما قالته العروس في صباح اليوم التالي لليلة العرس: "قد رأيناك فلم تحل لنا/ وبلوناك فلم نرض الخبر".

يذكر الدكتور محمد حسن عبد الله أن بعض قبائل العرب اشتهرت بالحب العذري، وهم قبيلة عذرة، وأن غيرهم اشتهروا بالنكاح وهم بنو الأذلغ .

الجاحظ: الحب فعل طبيعي

تناول الجاحظ الحب بوصفه فعلًا طبيعيًا بعيدًا عن المثالية التي أُشيعت بين من نقلوا الحب العذري عند العرب. كانت لغته في الحديث عن الحب والجسد جريئة بطريقة لا تُصدق، بصراحة ومباشرة، ودون كناية أو إشارة أو تورية. بل إنه حين يتطرق إلى العلاقة الجسدية يقرّر أن إباحة المتعة دون قيد هي الأصل، وهو ينكر الوازع في وجود المحارم، ويرى أن الشيوعية الجنسية هي الأصل، حسبما يذكر لنا الدكتور محمد حسن، ويرى أيضًا أن تحريم النكاح جاء بالشرع وليس بالطبع.

تناول الجاحظ الحب بوصفه فعلًا طبيعيًا بعيدًا عن المثالية التي أُشيعت بين من نقلوا الحب العذري عند العرب

يعترف الجاحظ باختلاف العصور، وبالتالي اختلاف التقاليد والأعراف، وكيف يختلط ذلك في كثير من الأحيان بالحل والحرمة.

اقرأ/ي أيضًا: الأيروتيكيّة السياسيّة.. عري النظام

على الرغم من الكثير مما جاء في كتب الجاحظ عن رؤيته للحب والجنس وتناسل الإنسان، إلا أن كثيرًا من رؤيته يبدو انطباعيًا، بمعنى أنه جاء ليقرّر أوضاعًا على عواهنها، ويبدو ذلك جليًا في كتاب "القيان"، حيث يصور حياة القيان "جواري الأنس والإمتاع" ويحكي حياتهن في بغداد ونشاطهن الجنسي الخفي، الذي رأي أنه يتستر خلف الفن والغناء، رغم أن سمعتهن كانت معروفة.

وعلى الرغم مما يبدو أنه تحاملٌ عليهن في كلامه عن حياة اللهو اللواتي عشنها، إلا أنه يقرّر أنهن كن بائسات تجرى المهاداة بهن، ويعاملن معاملة المتاع، وأن القينة مذعنة بالضرورة لا تملك من أمرها شيئًا. لكنك تعجب للتصوير البارع الذي صوره لهن، وكيف كن يتسخدمن حيل النساء للإيقاع بفرائسهن من الرجال فيقول: "إن القينة لا تكاد تخالص في عشقها (....) فإن شاهدها المشاهد رامته باللحظ، وداعبته بالتبسم، وغازلته في أشعار الغناء (....) فإن أحسّت أن سحرها قد نفذ فيه، كاتبته تشكو إليه هواه، وتقسم أنها مدّت الدواه بدمعتها، وأنها لا تريد سواه، وأنها لا تريده لماله بل لنفسه".

ثم يبدأ بوصف استنزافها لضحيتها بالجنس وتعليقها له بالمحبة الزائفة: "ثم تبعث له الهدايا، وتنقش اسمه على خاتمها، حتى تأتي إلى بيته فتمكنه بالقبلة فما فوقها"، ثم يستطرد في وصف مكرهنّ وإيقاعهنّ بالعاشق تلو الآخر دون وفاء لأيّ منهم، حتى يقول: "فلو لم يكن لإبليس شرك يقتل به، ولا علم يدعو إليه ولا فتنة يستهوي بها إلا القيان، لكفاه".

ولعلك إن أردت أن ترسو على بر في فهم طبائع البشر في المحبة والعشق وفي تعلق الجسد، وهدتك يدك أو نفسك أو حتى حسك إلى ابن حزم، فقد تكون قد وصلت إلى رؤية ذات منطق ما في الحب والجسد.

ابن حزم.. منطق الروح والجسد

لا يمكن أن يذكر الحب وابن حزم دون أن يُاتى على ذكر كتابه الأهم "طوق الحمامة"، الكتاب الذي وقع عليه الباحثون عليه من جميع أنحاء العالم تحليلًا وقراءةً ودراسةً وإعادة نشر وتحقيق.

في كتابه طوق الحمامة، يعقد ابن حزم التوازن بين مكونات المحبة "الذات- الآخر – الروح- الجسد"، ويركز على ذاته وتجربته الخاصة ورؤيته، حتى وإن نقل رأي أحد من معاصريه فهو ينقل ما سمعه بشكل مباشر منهم. إحدى الملاحظات الذكية التي نقلها المستعرب الإسباني جارثيا جوميز عن ابن حزم، أنه جعل الإنسان محور عمله وليس التراث وقصصه أو نوادره، ولا حتى الشعر وما قيل فيه.

فعلى سبيل المثال في حديثه عن الوفاء مثلًا، يقول: "إني لأسمع كثيرًا مما يقول: الوفاء في قمع الشهوات في الرجال دون النساء، فأطيل العجب من ذلك، وإن لي قولًا لا أحيد عنه: الرجال والنساء في الجنوح إلى هذين الشيئين سواء. وما رجل عرضت له امرأة جميلة بالحب، وطال ذلك، ولم يكن ثمة من مانع إلا وقع في شرك الشيطان، واستهوته المعاصي، وما من امرأة دعاها رجل بمثل هذه الحالة، إلا وأمكنته حتمًا مقضيًا".

في قصص العشاق من سرد ابن حزم تذوق جميل لا تطرف فيه، ولا انتصار لروح على حساب جسد

بل يحكي في طبائع البشر مما تراه يحدث حتى في أيامنا هذه، فيقول: "وشيء أصفه لك تراه عيانًا، وهو أني ما رأيت قط امرأة في مكان تحس أن رجلًا يراها، أو يسمع حسها، إلا وأحدثت حركة فاضلة كانت عنها بمعزل، وأتت بكلام زائد كانت عنه غنية، مخالفين لكلامها وحركتها قبل ذلك، والرجال كذلك إذا أحسوا بالنساء".

اقرأ/ي أيضًا: "عن الحب والموت".. باتريك زوسكيند في مطبخ الشيطان

يقر ابن حزم للمرأة بالحساسية الشديدة في التقاط أي كلمة أو حركة هاجسة، تدلّ على ميل الرجل لها، ويروي عن حكايات التعلق المطعمة بالفعل الجسدي ما يكشف عن ميله للمغامرة ولتذوق السرد، فيقول: "كانت هناك جارية اشتد وجدها بفتى من أبناء الرؤساء وهو بغرارة الصبا لا يشعر، ويمنعها من إبداء أمرها إليه حياء منه (لأنها كانت بكرًا بخاتمها) فلما تمادى الأمر وزاد الشوق، عرضت له بالشعر فما نفع الشعر، فضاق صدرها ولم تمسك نفسها في قعدة كانت له في بعض الليالي منفردين، ولما كان يعلم الله عفيفًا متصاونًا عن المعاصي، قامت إليه فقبلته في فمه، ثم ولّت لا تكلمه، وهي تتهادى في مشيتها".

في قصص العشاق من سرد ابن حزم تذوق جميل لا تطرف فيه، ولا انتصار لروح على حساب جسد، ولا جنوح للغريب كما في كتب الجاحظ، غير أن المتفحص للتراث في النهاية يرى، كيف عاش القدماء حياة محبة مغامرة بكل ما في الانسانية من نقص وجمال ومغامرة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الجسد والعمارة.. سجن الأنثى واستلاب الحرية

تاريخ الاستمناء.. أو الجسد كمدينة ملاهي!