18-سبتمبر-2015

أربع أجيال بيروتية تنام في مقبرة الباشورة (رمزي حيدر/أ.ف.ب/Getty)

"هنا يرقد فنان الشعب محمد شامل". قرأت تلك العبارة على ضريح جدي، فشدّني الفضول لقراءة ما حفر على بلاط مقابر العائلات البيروتية في جبانة الباشورة. بدت المقبرة كأنها ثلاث نسخات مختلفة لمدينة بيروت من ثلاثة إلى أربعة أجيال من الأجداد والأبناء، دُفنوا جميعهم تحت تراب الباشورة.

كانت الباشورة هضبة عالية في الماضي. يقال إنّ اسمها يعود إلى مصطلحات عسكرية استخدمها المماليك. فالباشورة جمعها بواشير، وهي كناية عن سدود رملية كانت تقام لمنع وصول الخيل أو السهام. أطلق أهالي بيروت عليها بداية اسم "تربة عمر" نسبة لعمر بن الخطاب، ثاني الخلفاء المسلمين. وكان ضريح والي سورية، أحمد حمدي باشا بأعمدته المرتفعة أول الأضرحة التي أقيمت فيها في أواخر القرن الثامن عشر.

توسعت رقعة المدافن حتى انبرى الشيخ عبد الرحمن الحوت إلى بناء سور يحيط بالجبانة. شيد العلامة الحوت سورها الشهير عام 1892، ونقل قبر الوالي حمدي باشا إلى داخلها بعد أن كان على طرف المقبرة تمامًا. وهكذا احتلت مقبرة الباشورة وسط العاصمة اللبنانية بسورها القديم وأبوابها الأربع، لتحمل مدافن أشهر عائلاتها.

اقرأ/ي أيضًا: نوستالجيا في مدينة الخامسة صباحًا

لعلّ المفارقة الغريبة هي المصالح التجارية التي أقيمت على أطراف المقبرة. إذ نقل أصحاب مطبعة منيمنة الشهيرة بطبع أوراق النعوة مطابعهم إلى مقابل جبانة الباشورة بعد حرب السنتين بين عامي 1975-1977. وهكذا صار العرض والطلب كمفهومٍ تجاري. الحرب تصنع الموتى، ولا بد من أن يتوافر كل شيء لدفنهم، قرب المقبرة. المطبعة التاريخية التي كانت في سوق أياس ــ وسط بيروت قبل تخريبه من سوليدير ــ وجدت المكان الأنسب مقابل الجبانة.

نقل أصحاب مطبعة منيمنة الشهيرة بطبع أوراق النعوة مطابعهم إلى مقابل جبانة الباشورة بعد حرب السنتين بين عامي 1975-1977

هنا أيضًا تتوزع بائعات الورود و شتلة "الأيس" التي توضع على المقابر. للباشورة حكايات في ذاكرة أهل بيروت القدامى. يروي كبار السن الذين عهدوا طيبة وبساطة السكان القدامى قصصًا عن الجن. يقال إنهم كانوا لا يمرون ليلًا أمام المقبرة كي لا يتصيدهم الجن، ويتحدثون عن قصص حصلت مع العشرات. طبعًا كانت الحكايات مناسبة لتخويف الصغار ومنها ما صدقه الكبار أيضًا فتحاشوا المرور من أمام المقبرة.

مقبرة الباشورة ليست تفصيلًا صغيرًا في عاصمة ميزتها حب الحياة

 الحاج كامل يروي قصة والده الذي اختفى ذات ليلة، وعاد مع طلوع الفجر إلى المنزل ليحكي لهم عن مطاردة عنزة له من الباشورة. قصد أبو كامل في اليوم التالي مقام الإمام الأوزاعي ليوفي نذوره، كي يبعد الأرواح التي تجسدت له في تلك العنزة الشريرة! بتلك القصص التي تمزج بين البساطة والخرافة عاش أهالي بيروت لسنوات مع حكايات الباشورة . والمقبرة ليست للخرافات ولراحة الموتى فقط، إذ شهدت تشييع أول فوج من الشبان البيارتة الذين اعتنقوا القومية العربية.

عدد من البيارتة التحقوا بالثورة الليبية على المستعمر الإيطالي عام 1924، وتوجهت حينها سفن إيطالية لقصف بيروت بغية معاقبة أهلها، فسقط العشرات من الشهداء. بعد تشييعهم، انطلق الآلاف من الباشورة نحو السراي الحكومي، وانتزعوا الأسلحة من المستودعات منطلقين إلى البحر لمواجهة السفن.

مقبرة الباشورة ليست تفصيلًا صغيرًا في عاصمة ميزتها حب الحياة. هي أربع طبقات من تاريخ سكان هذه المدينة منهم المذكورين ومنهم المنسيين، يتساوون جميعًا تحت أضرحتها. يبرز قبر تلمع رخامته، وآخر يبدو مهملًا وقد تكسرت "بلاطته". يزور آخرون ضريح فقيدهم فيما تفقد قبور أخرى عائلاتها. عدنان بعيون البيروتي الأربعيني يقول: "ثمة شجرة نبتت في الباشورة بين جدار السور، نصفها في المقبرة والآخر خارجها، كأنها بيروت بجيليها أو كأن الأغصان التي تخرج من السور هي أرواح أسلافنا تطل على بيروتها التي تحب من حين إلى آخر.

اقرأ/ي أيضًا: مباني بيروت التراثية.. ذاكرة للنسيان!