08-مارس-2017

أم وأطفالها بمحافظة الزقازيق المصرية (Getty)

حكت لي صديقة أجنبية أنه قيل لها اكتبي عشرة أشياء تعلمتِها في مصر فكتبت خمسًا من العشر جمل: "الأم في مصر مقدسة".

منذ فترة قريبة قرأت مقالًا في "الغارديان" عن الإنجاب والندم، ورأيته وقتها جريئًا ومباشرًا جدًا ودخل إلى المساحة التي لا يحب أحد في العالم الدخول فيها، وكانت عن ارتباط الإنجاب بالندم، احتفظت برابط المقال المترجم وعدت أقرأه عدة مرات. لن يعجب المقال أحدًا، لكني فوجئت به منشورًا عدة مرات بالأجنبية والعربية على السواء في عدة مواقع وكأنه يطاردني أنا شخصيًا.

لماذا يجب ألا يبدو الندم على الإنجاب في مجتمعاتنا العربية؟ رغم أن كل شيء في هذه المجتمعات يحارب المرأة ولا يسهل عليها حياتها

تدفقت العناصر والعناوين والذكريات في رأسي، موضوعًا بعد آخر، حتى بت لا أدري كيف ولا من أين أبدأ ووجدتني أحاول استجماع أفكاري واحدة بعد أخرى ولا أكاد أعثر على فكرة حتى تزاحمني أخرى.

لماذا يجب ألا يبدو الندم على الإنجاب في مجتمعاتنا العربية؟ رغم أن كل شيء في هذه المجتمعات يحارب المرأة ولا يسهل عليها حياتها، فالمجتمعات التي تحدثت عن الندم على الإنجاب كانت أكثر إنصافًا من مجتمعاتنا العربية مع المرأة الحامل وأكثر حفاظًا على صحة وكرامة الأم الحاضنة.

اقرأ/ي أيضًا: زواج القاصرات في الجزائر.. تزايد مقلق

نبدأ من فترة الحمل التي تتحمل فيها الأم في مجتمع مثل مصر "حشرية" وصفاقة، ترى أن الأم تكتسب ميزة كونها تحمل جنس مولود ذكر، وهي ذاهبة إلى عملها قد لا تحظى بمواصلات آدمية مع آلام الحمل وتغير الهرمونات والمزاج والشهية، وتجد رجلًا ينظر لها في مكان العمل على أنها أخذت مكانًا كان رفيقه الرجل أحق به، لأن لها زوجًا يعمل، وأنها تنقصها الكفاءة لأنه يتم التعامل مع حملها على أنه إعاقة طبيعية، وفي أحيان كثيرة لا يتم التساهل مع ما تقتضيه طبيعتها الجسدية وقتها من حصولها على وجبات متفرقة أو فترات راحة أكثر بقليل من غيرها.

بعد الولادة تبقى هذه الأم عالقة مع ذلك الرضيع ،فإذا خرجت به للأماكن العامة فإنه يُنظر إليها على أنها أم مهملة فهي خرجت برضيع يحتاج إلى منزله، كما لا توجد أماكن يمكنها استضافة الأم ورضيعها، ومجهزة بأماكن تغيير حفاضات الأطفال، سوى المراكز التجارية، ونادرًا ما يكون هناك أماكن مخصصة لفترات الرضاعة، حتى الأم التي تقرر أن ترضع ابنها واضعة سترًا من القماش على جسدها لحفظ كرامتها يُنظر إليها على أنها غوغائية ومهملة، وفي المناسبات والنوادي نجد مكتوبًا على البطاقات "جنة الأطفال بيوتهم" وكأن الأطفال لا يجوز لهم أن يخرجوا. ولا تخصص أماكن للعبهم في هذه الصالات، وحتى في المقاهي كلما بكى طفل أو صرخ يتبادل الرواد نظرات التملل والانتقاد للأم لأنها تجرأت وجلبته إلى "الكافيه"، ولا تخصص لهم أماكن هناك أيضًا حتى تتمكن الأم من مصاحبتهم مرتاحة البال.

الخطاب السائد في مصر هو خطاب يشجع الفردانية "عش وحدك"، "استمتع بحياتك"، فرص السفر والراحة يحتكرها ذلك الوحيد غير المتزوج

فكيف يمكن بعد كل هذا للأم ألا تشعر بالندم ولو قليلًا؟ لأنها جلبت إلى العالم هذا الطاغية الصغير الذي يحاصرها ويحد من حريتها ليل نهار؟

أما الخطاب السائد في بلد مثل مصر فهو خطاب يشجع الفردانية "عش وحدك"، "استمتع بحياتك"، "لا شريك يساوي المتعة"، كل فرص السفر والراحة والمتعة في العالم هي ملك يحتكره ذلك "البرنس" الوحيد الذي لا شريك له في مؤسسة زواجية ولا أطفال هو مسؤول عنهم.

مواعيد العمل في كثير من الشركات ليست في صف الأم، وحتى مواعيد عمل الحضانات "أماكن رعاية الأطفال"، دائمًا ما تغلق أبوابها قبل انتهاء ساعات العمل.

اقرأ/ي ايضًا: العنف الزوجي وزواج القاصرات.. أرق المغربيات

فكيف تتعامل تلك الأم التي لا يحبها المجتمع أن تخرج من باب بيتها بطفلها؟ أليس هذا هو الذي يحد حركتها، ويغير مزاجها، ويختصر مساحة حريتها، ويحرمها من النوم ومن حياتها الشخصية لفترة قد تمتد إلى عامين؟ هذا بالإضافة إلى فاتورة خيالية تُحرض عليها السياسية الإعلانية العامة لمستلزمات هذا الطفل، تحرمها من أبسط حقوقها أحيانًا.

مواعيد العمل في كثير من الشركات ليست في صف الأم، و"أماكن رعاية الأطفال" دائمًا ما تغلق أبوابها قبل انتهاء ساعات العمل

حين أنجبت ابنتي كنت أستجيب ببساطة إلى نداءات مجتمعية عن الأطفال، وكان كل ما أعرفه عنهم هو تلك الصور الجميلة التي لا يتقيؤون فيها ولا يصابون بالإمساك أو الإسهال أو الطفح الجلدي. مرت ليال كنت أتمنى فيها أن أنام ساعة واحدة متواصلة. وحين أنجبتها كنت أخاف عليها للدرجة التي كانت تشل أعصابي عن التفكير.

ابنتي فعلًا نعمة من الله، وأؤمن أنها سبب الخير الكثير الذي فتح الله لي بابه، وهي خفيفة الظل ومرحة لدرجة أن كلمة واحدة منها دون قصد قد تخرجني من أعتى نوبات اكتئابي. وأنا أحبها للدرجة التي تجعلني أتمنى أحيانًا لو أنني غير مطالبة بفعل شيء في هذا العالم سوى الجلوس جوارها.

لكننا في عالم يقهرنا، ويرى أن قيمة الإنسان تساوي وظيفته، وأنه يجب أن يترك الأثر ويحفر الصخر ويكون "جرندايزر" لينتزع شرعية وجوده من العالم، وهو ما اكتشفت فيما بعد أنه محض هراء!

و بعيدًا عن التنميط التجاري والفكري للمجتمع عن الأمومة، فإنها ما زالت في حاجة إلى من ينظر إلى المرأة على أنها إنسانة قبل أن تكون أمًا، وألا يدخر احترامه لها إلى مرحلة الأمومة.

اقرأ/ي أيضًا:
الطلاق في العراق.. أزمة مستجدة فوق الدم
لبنان: لا أمومة باسم المحكمة الجعفرية