22-أكتوبر-2016

وقفة احتجاجية للأطباء المضربين في أحد مستشفيات الخرطوم (فيسبوك)

مع أن المدة التي قضيتها بعيدًا عن السودان قصيرة، لم تصل إلى الأشهر الثلاثة؛ إلا أنها كانت كافية لإعادة النظر بعين جديدة إلى تدافع الأحداث، وملاحظة سرياليتها الصارخة، أكثر مما كان يحدث حين النظر إليها من عين العاصفة.

وعلى الرغم من أن الابتعاد قد يُفقد الناظر ميزة المتابعة والتمحيص عن قرب، لكنه فتح الباب أمام تساؤلاتٍ ينظمها خيط تقع إحدى نهايتيه عند حتمية التغيير المقبل، بينما تحمل الأخرى مخاوف المستقبل، في ظل احتقان وتفكك لم تعرفه أرض النيلين من قبل، حتى في أشد ليالي تاريخها حلكة.

هناك حراك الآن، حقًا، يدفع إلى الانتقال من خانة التشاؤم، إلى تفاؤل شحيح. فبعد سنوات أُهدرت في الانتظار وتجريب المجرَّب، بغض النظر عن ملاءمة الظرف التاريخي، تخلخلت البنى القديمة قليلًا، ليتسرب من بين شقوقها وعي جديد بالحقوق وكيفية إدارة المعارك.

ما يُقرأ من كل ما حدث ويحدث، أن لا أحد سينجو وحيدًا، فثمة واقع يُكتب الآن وبيد كل سوداني قطعة من الخاتمة

ليس اعتمادًا على منقذين خارقين، ولا على قوى لم يبق منها إلا الأسماء، بل على قراءة مواكبة للواقع وتلمّس حصيف لحدود المرحلة. تفاؤلي المتحفظ هذا تبرزه أحداث جارية الآن، أو تجري تبعاتها، أضيفها إلى ما سبق من قراءات.

فبعد أيام من الذكرى الثالثة لثورة سبتمبر المقموعة بالدم والرصاص، كان نظام البشير يلقي نظراته الأخيرة على مكياجه السياسي المسمى "الحوار الوطني"، الذي بدأه منذ كانون الثاني/يناير العام 2014 وقرر ختامه في العاشر من الشهر الجاري، حين رقص البشير احتفالًا بتسلم توصياته أمام الحشد الذي جُمع قسرًا من موظفين وطلاب صغار. إلا أن إضراب الأطباء السودانيين عن العمل في جلّ المستشفيات، قد يكون خفف من الزخم الخفيف سلفًا للحوار الوطني.

اقرأ/ي أيضًا: السودان وإسرائيل.. المصالح المشتركة للأعداء

بدأ إضراب الأطباء في السادس من تشرين الأول/أكتوبر على خلفية تعرض عدد منهم للاعتداء من مواطنين بسبب وفاة أحد المصابين، فجاء الإضراب الذي بذل النظام جهده لإفشاله، بمطالب منها تحسين البيئة الصحية وحماية الأطباء أثناء أداء واجبهم.

استمر الإضراب لثمانية أيام من دون أن تنجح السلطات في فضه، ليثمر في النهاية عن تزويد المستشفيات بالأدوية والمعدات المطلوبة، وهو ما جعل الأطباء يرفعونه لأسبوع، ينتهي اليوم، في انتظار تحقيق بقية المطالب أو العودة للإضراب من جديد.

عقب ختام "الحوار الوطني" الذي نال حظه من تندر السودانيين، بيومين، استضاف الإعلامي حسين خوجلي، البشير في حوار بثته الفضائيات السودانية، حاول فيه البشير ومن يحاوره، رسم صورة حاكم نموذجي متصالح ومهتم بشعبه، على عكس الصورة التي رسّختها سبعة وعشرون عامًا من حكم الرجل.

ردود الأفعال على الحوار جاءت ساخرة ومتندرة عليه. لم يؤخذ في المجمل بجدية، وهذا -بحسب ما أرى- يشير إلى وصول الرأي العام، لمستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي على الأقل، إلى المرحلة التي تسبق الرفض العنيد، مثلما رأينا السخرية التي سبقت الثورات، متوازية مع الاحتجاجات التي تبدأ كتفاعل متسلسل إلى أن تستحيل إلى تمرد شعبي.

اقرأ/ي أيضًا: السودان.. صلوات من أجل اللصوص

الضغط الواقع على النظام، تزامن مع ضغوط تواجهها المعارضة التقليدية، من الأحزاب القديمة والتكتلات الباحثة عن السلطة، مفاوضةً وبالسلاح. فبعد تآكل الثقة في تحالفات المعارضة، تعرض الحزب الشيوعي لمزيد من الضغط خلال الأيام الماضية، بالاستقالة الجماعية لعدد من الأطباء، وقبلها استقالة شيوعي بقامة المحامي والشاعر كمال الجزولي من مهامه القيادية احتجاجًا.

حراك الأطباء السودانيين القوي قد يكون بداية، ونموذجًا ينسج آخرون مثله، إن نجح أم لا

الاستقالات التي جاءت كتعبير عن الصراعات الداخلية في الحزب القديم، يصعب فصلها -بالنسبة إلي- عن الحراك المتسارع في المشهد السوداني. هو ضغط وتخوف من النظام، إلى حد مصادرة رواية ماركيز "الحب في زمن الكوليرا" من معرض الخرطوم للكتاب الجاري هذه الأيام، فقط لورود اسم المرض الذي تصر الحكومة السودانية على عدم تفشيه في بعض مناطق السودان، وتلزم، من ثم، الصحف بتسميته "الإسهال المائي"! بينما تجعل الصراعات الداخلية حزبًا مثل "الشيوعي" تقابل عضويته بالحدة والاتهامات، المستقيلين والمنشقين، دعك من التحالفات التي يثق كل مكون من مكوناتها في الآخر ثقته في عقرب نائمة.

إني لأتمنى أنَّ الكيان الذي تسميه القوى المتصارعة على الكرسي، "الشعب" أو"الجماهير"، يعمل الآن على اكتشاف طرقه بعيدًا عن الراغبين في استخدامه بدعوى الدفاع عنه.

حراك الأطباء القوي قد يكون بداية، ونموذجًا ينسج آخرون مثله، إن نجح أم لا. فالبلاد الآن -بحسب ما أرى- في قلب العاصفة بلا مهرب، باستصحاب التعقيدات الإقليمية والدولية. إنه أشبه بسباق نحو الأمان بالنسبة إلى البعض، ونحو النجاة لآخرين، لكن ما يُقرأ من كل ما حدث ويحدث، أن لا أحد سينجو وحيدًا، فثمة واقع يُكتب الآن وبيد كل سوداني قطعة من الخاتمة.

اقرأ/ي أيضًا:
جنوب السودان.. صراع متجدد في دولة هشة
"سودانيات ضد الحجاب".. اغتيال المعارِضات بالفبركة