17-مارس-2025
أدونيس.jpg

(Getty) فاضل بين جسدٍ مقتول وآخر

يُصرّ أدونيس على البقاء في الدائرة التي اختارها لنفسه قبل 14 عامًا وربما أكثر. كما يبدو مصرًّا دائمًا على تذكيرنا، بين وقت وآخر، بضرورة الإجابة عن سؤال: من هو أدونيس؟ وهو سؤال يستدعي الكثير من الإجابات التي تُجمع على أنه مثقف منسلخ يتبنى خطابًا استشراقيًا يمينيًا فجًا ينهض على تاريخ طويل من الأفكار النمطية حول الدين والثورة والحجاب والثقافة والحداثة.

وإذا كان لكل سياق إجابة، فإن للسياق السوري كمًا هائلًا من الإجابات! فعلى مدار 14 عامًا، لم يلتفت أدونيس لكل ما حدث في سوريا: مجازر مروّعة من كل نوع، وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وتطهير عرقي، واضطهاد، وتهجير، وتعفيش، وفقر. كما لم يُسجِّل، طوال هذه السنوات الثقيلة، أي تفاعل أو موقف مع مجزرة أو حالة اعتقال وتعذيب، أو غير ذلك. 

لم يفعل أدونيس شيئًا، طوال هذه السنوات، سوى أنه كرّس ما يدركه كثيرون، وهو أن صمته الثقيل هذا ليس مجرد موقف شخصي، بل هو انحياز لنظام بشار الأسد، ورفض ضمني لتطلعات الشعب السوري نحو الحرية والكرامة. الأمر لا يتعلق بفكرة خروج الثورة السورية من المسجد كما ادعى ذات يوم، وإنما بتأييده الوقح والفج لنظام وحشي ذوَّب سجّانوه وجلّادوه أجساد المعتقلين في الأسيد بعد أن قاموا بـ"كبسها" في سجن صيدنايا، وجعل من البلاد مساحة ممتدة من الخراب، ومصنعًا للموت و"الكبتاغون".

لم يلتفت "الشاعر الكبير" لكل ما سبق، ولم يعلّق على ما خرج إلى العلن بعد سقوط نظام الأسد، ولم يتوقف عند أي مشهد من مشاهد القهر والحرقة التي عاشها السوريون الذين تجمعوا لأيام طوال في المعتقلات يبحثون عن أثر لأبنائهم. لم يقل شيئًا بعد أن تبيّن للجميع أن البلاد معتقل كبير، وأن لكل معتقل فيه نصيبه من التعذيب الذي تتعدد أشكاله كما أنتجتها عبقرية الشر. 

لا تعبّر مشاركة أدونيس في هذه الوقفة عن انتقائيته وانحيازه فقط، بل تُثبت صحة كل ما قيل فيه أيضًا طوال عقد ونصف أصر خلالها، بشكل عجيب، على مواقفه المخزية

لكنه اليوم، بعد بحر من الدماء وجبل من الأنقاض، يظهر أدونيس في وقفة تضامنية بباريس مع ضحايا الساحل، ليكشف مجددًا عن انتقائية وانحياز مكشوفين يصرّ على التذكير بهما بين وقت وآخر، إذ كيف لشاعر أن يغض الطرف عن ملايين الضحايا من أبناء وطنه الذين اعتُقلوا وعُذّبوا وقُتلوا بالقذائف والبراميل والكيماوي، وهُجّروا من بيوتهم ومُدنهم؛ ثم يتحرك فقط عندما تكون هناك صلة طائفية تربطه ببعض الضحايا؟ هذه انتقائية لا يمكن تبريرها إلا بوصفها انحيازًا طائفيًا مكشوفًا، والأمر ليس بغريب عن أدونيس الذي عوّدنا على ما عوّدنا عليه المستشرقون من قبله، لكن الفرق أنه تفوق عليهم!

لم يكن أدونيس مثقفًا عابرًا للهويات بقدر ما كان حبيس مربع الطائفة، ولم يخرج منه إلا حين صارت تلك المغادرة وسيلةً للتماهي مع المركزية الغربية في أسوأ تجلياتها. وما أسماه عبورًا للهويات لم يكن سوى رسالة استجداء للقبول على الضفة الأخرى من المتوسط، ولا علاقة له بالتحرر من القيود الهوياتية. أما موقفه السياسي المهادن للنظام، وانتقائيته في التعاطي مع ضحاياه، فقد كرّسا نزوعًا مناقضًا تمامًا لقيم العلمانية والعقلانية، اللتين لم تكونا سوى قناع لاصطفاف طائفي بدا جليًا في نهاية المطاف.

لا تعبّر مشاركة أدونيس في هذه الوقفة عن انتقائيته وانحيازه فقط، بل تُثبت صحة كل ما قيل فيه أيضًا طوال عقد ونصف أصر خلالها، بشكل عجيب، على مواقفه المخزية. بل عاند وكابر أمام كل النقد القاسي الذي وجّه إليه. وليست مشاركته في هذه الوقفة إلا استكمالًا لنسف صورة المثقف الذي يُفترض أن يواجه ويُحاسب نفسه قبل أن يُحاسب الآخرين، وينحاز للإنسانية بغض النظر عن الثمن.

أدونيس ليس سوى ظاهرة ثقافية من عصر انتهى دون رجعة. ليس هذا النموذج الذي تحتاجه سوريا اليوم. ما تحتاجه البلاد مثقف نقدي عاش فصول مأساة بلاده وواكبها بضمير حي من دون أن يتحول إلى بوق لنظام أو طائفية أو ميليشيا. مثقفٌ تمكن من الحفاظ على سلامة حسه الأخلاقي بتبني حق المختلفين عنه، وبنزعة ديمقراطية تريد التشارك والتكامل مع الجميع، رافضًا أن تحدث جريمة جديدة يكون شاهد زور عليها، أو يجعل من مشروعه استمرارًا لمشروع الاستبداد.

المثقف الذي تحتاجه سوريا اليوم هو ذلك الذي يضع الكرامة الإنسانية في صلب مشروعه الثقافي، لا من يتلطى خلف الشعارات الحداثية والتنويرية ليبرّر الاستبداد. أدونيس لم يكن كذلك يومًا، ولن يكون. وها هو يمضي نحو التلاشي، بعد أن لفظه السوريون، لا لشيء سوى لأنه ظلَّ أسير خطاب استشراقيّ لم يكن أكثر من بلاغة يمينية فجّة، لكونه يتعامل مع ثقافته وتراثه كفلكلور جامد، ويعيد تشكيله وفق قناعات بيضاء تُقصي جوهره الحيّ. ولهذا كان رفضه للثورات منطلقًا من أنها تُهدد منطقه، إذ أثبتت أن الواقع الذي أصرّ على تصويره كحالة ثابتة وسلبية يزخر بإمكانات التغيير، ولديه كل الإرادة للمضي نحو مستقبل أفضل بالضرورة.

أما وقفة باريس، فلم تكن سوى التوقيع الأخير على بيان لطالما حاول أدونيس تحويره. لكن اللعبة انتهت، ولم يبقَ للشاعر ما يقوله بعد أن جعل الدماء مراتب، وفاضل بين جسدٍ مقتول وآخر.