04-مايو-2023
في مخيم لاجئين

(Getty) أطفال بين الخيام في مخيم للاجئين السوريين في لبنان

يذهب التركيز في الملمّات الكبيرة على حركة القوى الأمنية وتصريحات السياسيين، ويبقى الضحايا المهدّدون من هؤلاء غائبين، فمن عادتهم أن لا يقولوا شيئًا، فالقول من حقّ من يمتلكون القوة. أما الطرف الآخر فليس له سوى الصمت والاستماع من جهة، وليس عليه سوى أن يقبل الهزيمة، موتًا أو رحيلًا من جهة أخرى.

ذلك التمييز والتحيّز من السمات الراسخة في النوائب. وفي لبنان، حيث تشيع عبارات مثل "اللاجئين السوريين" أو "اللاجئين السوريين في لبنان"، فالغموض يزداد غموضًا، واللامرئيون يزدادون غيابًا.

ولأنّ المقاربة ليست ممكنةً دون حضورهم كأصحاب دور ومتأثرين بالقضية، يحقّ لهم أن يحضروا كرواةٍ لديهم وجهات نظر مختلفة. ولأنّ وجهات النظر في هذه الحالات تجرّ وبالًا على حامليها، فليس علينا سوى التفكير بأمور بسيطة للغاية مثل التفكير بما يشعرون به الآن؟ كيف تساهم هذه الحملات الدموية في تهديد حياتهم المحاصرة بالمخاطر أصلًا؟ أية مفارقة هذه حين يغدو الهدف هو المحافظة على حياة حصلوا عليها باللجوء أمام قوى قررت سلبه، بدلًا من العمل على إنصافهم؟

يعيش اللاجئون حالة ذعر جماعية، لا من رعب الوقوع في قبضة من هربوا منه وحسب، بل أيضًا لإدراكهم أن هذه النجاة لم تكن نجاة، وأنّ العالم والحظ يجتمعان معًا عليهم

يعيش اللاجئون حالة ذعر جماعية، لا من رعب الوقوع في قبضة من هربوا منه وحسب، بل أيضًا لإدراكهم أن هذه النجاة لم تكن نجاة، وأنّ العالم والحظ يجتمعان معًا عليهم، مرةً أخرى، في صفّ المجرم الذي نكّل بهم.

وفي خضم هذا الذعر المتعاظم، تلعب الإشاعات دورًا كبيرًا في تدمير قدرتهم على الصمود. لا يمكن للإشاعات أن تكون بريئة في سياق الحملات الأمنية المشابهة، لأنها تأتي لتلعب دورًا في التيئيس وتفتيت الإرادة، وفي الإذلال أيضًا، ويمكنها أن تساهم في تسريع خروج قسم منهم إلى بلد آخر، وفي الوقت نفسه، وهنا النقطة الحاسمة، تمنع اللبنانيين من التضامن، بل تهيئ الجو للحط من شأن المتضامنين إلى مستوى الخونة.

يعود مشهد الرحيل مرة أخرى. لا يوجد ما يُمثّل الهزيمة مثل الرحيل الجماعي للهاربين من الموت والعدوان. وإن كان الأمل يظل يخدعهم بأن الإنصاف قادم عبر إزاحة الدكتاتور والعودة بكرامة إلى الديار، فالذي يحدث هو إنزال مزيد من اليأس فيهم، من قبل حلفاء القتلة الأوائل، وهكذا بدلًا من أن تأخذ المأساة شكلًا محددًا يمكن فهمه والتعاطي معه، يحدث أنها تكبر وتتضخم وتتسع فيها حدود الظلم.

وسوى النشوة العارمة التي يشعرها صنّاع هذه المأساة وشركاؤهم، يغدو هذا المشهد فرصة لتأثيم مرحلة كاملة من تاريخ العالم العربي، وهي أنَّ ما جرى في سوريا لم يؤد لغير الدمار، والدمار لم يؤد لغير الطرد، والطرد ما إن يحدث لا ينتهي.

هذا هي الخلاصة التي يرغب صنّاع مأساتنا أن يقولوها لنا، وهي ما يرغبون أن يدركها من سيفكرون بالتغيير في المستقبل.

ما من شيء يُوجع مثل أن نكون شهودًا على هذا الشرّ، ففوق إيلامه وعنفه وصلافته يضعنا في مأزقٍ أخلاقيّ حين يجعل من معارضتنا له سلبيةً وعاجزةً، ويستمر في إكمال مهمة شيطنة الناس.

وضع الناس في درجات ومراتب أدنى ينتهي إلى القتل، النظر إلى أنَّ هناك من هم أكثر إنسانية من الآخرين ينتهي إلى القتل.

ما يجري شرّ، والشرّ لا يحتاج أكثر من حملةٍ، وبعدها لن يكون هناك ما يوقفه عن الفتك في المجتمع الذي بدأ منه، ولعل هذا بالتحديد ما يجعل مواقف الأحرار من البشر شديدة الأهمية كونها تعمل عملَ المضادات في وجه الوباء.

يحتاج إشعال الحرب إلى عدة أسباب، من بينها وأهمها: الحماقة. ولدى الطبقة السياسية في لبنان من الحماقات ما يكفي حروبًا لقرن كامل، فلماذا تتواصل مسيرة المجازفة بمصير هذا البلد؟ ولماذا ينخدع بهذه الحملة أناس ممن اختبروا واحدة من أسوأ الحروب الأهلية؟

يحتاج لبنان إلى طوفان ونوح وسفينة، فعلًا لا مجازًا، إلا أنّ المفارقة الساخرة أنّ الذين يلعبون دور نوح هم من هيّئوا الأسباب التي تستدعي مجيء الطوفان

ربما ما من داعٍ لطرح مثل هذه الأسئلة، فلو أن من يفكرون بها، وهم كثر بكل تأكيد، في مواقع صنع القرار، أو حتى التأثير، لما كنا وجدنا دافعًا لطرح السؤال وحسب، بل ما كان لبنان وصل نفسه إلى الانهيار بهذا الشكل التراجيدي!

لبنان، في النهاية، مثل لاجئيه يستحق الرثاء.

أخيرًا، ليست العنصرية فطرية أو متأصلة في أي جماعة من الناس، بل هي سلوك مكتسب ويمكن التخلص منه بآليات وطرق عديدة، لكنّ العنصريين يفعلون كل ما بوسعهم لمنح وبائهم القوة والديمومة، لأن الصورة المُتخَيلة عن أنفسهم تعطيهم إحساسًا غامرًا بالتميز والخصوصية، ولهذا لن يكونوا مهتمين بالضرر التي تلحقه أفكارهم وأفعالهم بهم أولًا، قبل الآخرين، كونهم يسهمون في نشر الخوف وانعدام الأمن، وبالتالي بحاجة كل جماعة إلى حماية نفسها بنفسها.

كل واقعة مشابهةٍ هي معركة تطهير، سواء في لبنان أو تركيا والدنمارك. وهنا تغدو النصوص الدينية ملهمًا عظيمًا، فلا يمكن للحل سوى أن يأخذ شكلَ تطهير جديدًا وكاملًا، تمامًا مثل الأرض في مرحلة ما بعد الطوفان.

ما يُشوّش الفكرة هنا أنّ لبنان يحتاج إلى طوفان ونوح وسفينة، فعلًا لا مجازًا، إلا أنّ المفارقة الساخرة أنّ الذين يلعبون دور نوح هم من هيّئوا الأسباب التي تستدعي مجيء الطوفان.