28-أكتوبر-2015

دراسة الموديل العاري تثير جدلًا بالجامعة اللبنانية(Getty)

تعتبر مادة "رسم الموديل العاري" أو ما يسمى بـ"التشريح الجمالي" ومادة "النماذج الحية لجسم الإنسان" من المواد الأساسية في اختصاص الفنون التشكيلية في الجامعات العالمية، وذلك من أجل التعرف على النسب الحقيقية للجسد البشري وأعضائه. أما في لبنان فقد تم تعديل هذه المادة من مقررات معهد الفنون الجميلة واستبدلت بموديل غير عار لرجل أو امرأة بلباس يتناسب مع الأعراف والتقاليد الاجتماعية والدينية، حسب قول البعض، وبالتالي يتم التعرف على النسب من خلال الأقمشة والملابس التي يرتدونها.

فرض هذا التغيير بسبب الطبيعة الطائفية للبنان وبتأثير من الأحزاب السياسية لأن بعض الطوائف، وربما كلها، لا تسمح بهذا النوع من الرسم إضافة إلى اعتراض بعض الأحزاب الدينية وافتعالهم مشاكل داخل حرم معهد الفنون في الجامعة اللبنانية وفرض تعديل المادة بالقوة. ويبرر البعض ذلك بالقول إن "إبقاء المادة دون تعديل قد يعيق انتساب بعض الموهوبين إلى معهد الفنون الجميلة وتشكل بذلك حرمانًا لهم من تنمية مواهبهم".

لا تسمح الأحزاب السياسية اللبنانية، خاصة الدينية منها، بدراسة مادة الموديل العاري بمعاهد الفنون الجميلة وقد فرضوا تعديلها

ويكثر الحديث عن إمكانية إلغاء هذه المادة الأساسية من المقررات المعتمدة في اختصاص الفنون التشكيلية بشكل نهائي على الرغم من كونها مادة ضرورية، لا اختلاف حول أهميتها في أسس تعلم الرسم وتقنياته. والجدير بالذكر أن تعديل المادة لم يتم بموجب قانون صادر عن الجامعة اللبنانية وإنما بفعل الضغوطات الاجتماعية والتدخلات الحزبية، وأصبح ذلك عرفًا معمولًا به في المعاهد والكليات.

تقول الفنانة دلال ترحيني، وهي طالبة ماجستير في اختصاص الفنون التشكيلية لـ"ألترا صوت": "لا شيء يمنعني من الرسم والفنان يفرض نفسه بلوحاته فإذا كان العمل الفني له موضوع وفكرة وقضية فإنه يفرض نفسه، وقد تصادف لوحات ضعيفة لفنانات جريئات تخطين الحدود الدينية". وتضيف دلال: "لا يمكننا القول بأنه لا فن تشكيلي دون الموديل العاري وما حصل هو احترام للديانات وتقبل لمعتقدات الآخرين ويجب على الفنانين احترام آراء بعضهم البعض وبناء تواصل إيجابي فيما بينهم".

وتتابع دلال: "أنا أمارس عملي الفني بحرية ولا أخلط التزامي الديني داخل اللوحة لأن الدين يمارس ولا يرسم، لذلك لدي القدرة على التوفيق بين الرسم والدين حتى أنني أحيانًا أرسم لوحات تتضمن أعضاء بشرية ولا أواجه أي مشاكل في ذلك ويتم عرض هذه اللوحات في المعارض. الأعضاء البشرية ترسم في كل لوحة وأنا مثلًا أرسم أعضاء بشرية غير عارية وهذا لا يتضارب مع قناعتي الدينية".

لكن للبعض نظرة مغايرة، إذ يرون أن "رسم الموديل" أساس الفن التشكيلي وإلغاء هذه المادة بمثابة إلغاء لاختصاص الرسم بأكمله. ويرون أن الفنان التشكيلي يتعامل مع الموديل العاري من منطق التأليف اللوني فيصبح الجسد كقطعة قماش لا غير. يرى هؤلاء بأن لا تحديات أمام الطلاب الملتزمين دينيًا بالحدود الشرعية كي يواجهوها، لا بل إن الالتزام الديني الصارم عند بعض الطلاب يؤدي إلى إلغاء كل التحديات التي يواجهها الفن ويعمل من أجل تحقيقها في سبيل الارتقاء بالفكر والمجتمع.

في هذا السياق، يشرح الفنان السوري مجد كردية لـ"ألترا صوت" رؤيته: "إن إلغاء مادة الموديل العاري من اختصاص الرسم بالجامعة يعتبر بمثابة إلغاء مادة التشريح من اختصاص الطب". لقد ألغيت هذه المادة في العديد من الدول العربية بسبب اجتياح موجات التطرف الديني لمجتمعاتنا بينما كانت تدرس في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي".

لكن يرد الشيخ حسين عبد الله، عضو المكتب الشرعي لمحمد حسين فضل الله: "الدين الإسلامي هو الأصل وهناك بعض الطلاب لا يلتزمون بالحدود الشرعية الإسلامية بشكل كامل. إنهم مشكورون لما استطاعوا الالتزام به ولكن ذلك لا يعفيهم من مراعاة الضوابط الأساسية في المسائل الدينية في كافة الاختصاصات كالفنون والطب والمحاماة وغيرها وخاصة لدى المرأة المسلمة".

ويضيف عبدالله لـ"ألترا صوت": "رسم الموديل الكامل لجسم الإنسان محرم لأنه تشبَه بقدرة الخالق على الخلق، ويسري ذلك على تحريم النحت لمجسم الإنسان الكامل status أو أي مخلوق له روح كالحيوانات أو أي عمل إباحي كتجسيد الأعضاء الجنسية وعرضها وإبرازها في المعارض الفنية أمام الناس، إن خرق المبدأ الأساسي للحدود الشرعية ربما يفسح المجال أمام خروقات إضافية، والمسلم والمسلمة الذين يخرقون التزامهم الديني وفق المعايير الإسلامية لمرة واحدة قد يصبحون أكثر عرضة لخروقات مستقبلية بسبب ضعف الرادع الديني تدريجيًا". وأنهى كلامه: "كل تفصيل له حكمه، وكل عمل له فتواه، وتسري الضوابط الدينية على الرسم والرقص والغناء والتبرج وغيرها من الأمور في العديد من الاختصاصات".

يخوض الفنان اللبناني، والعربي بصفة عامة، صراعًا مع القوانين السائدة في المجتمع بهدف تجاوزها إلى الأفضل عبر طرحها من زوايا مختلفة، وتعمل الرقابة المفروضة عليه في العالم العربي وهامش الحرية المعطى له على تضييق الخناق على الأعمال الفنية، فكيف إذا كانت القيود نابعة من فنانين مثله يرون في القيود عناصر إيجابية ومصلحة اجتماعية في تحويل الفن وتحويره لخدمة رؤيتهم العقائدية؟

يخوض الفنان اللبناني، والعربي بصفة عامة، صراعًا مع القوانين السائدة في المجتمع بهدف تجاوزها إلى الأفضل عبر طرحها من زوايا مختلفة

تقول آمنة نور ياسين، خريجة معهد الفنون الجميلة قسم الفنون التشكيلية، لـ"ألترا صوت": "لا يمكنك تغطية الطاولة ثم تطلب مني أن أرسمها بواسطة الخيال". الفنان يجب أن يرى الأشياء في الواقع على حقيقتها قدر الإمكان، وطبعًا كرسامة أعترض على تعديل أو إلغاء هذه المادة من الاختصاص".

لا يخلو العمل الفني حتى الآن من صعوبات معيشية تواجه الشباب الخريجين والعاملين في هذا القطاع في العالم العربي. يبدو من الأفضل التفكير في كيفية دعم وتأمين فرص عمل لهؤلاء والبحث حول إمكانية تطوير القطاعات الفنية وإيصال الفن إلى جميع الشرائح الاجتماعية بدل السعي إلى تحديد الفنون وترويض الفنانين عبر التفكير في جواز أو عدم جواز رسم ونحت الأعضاء البشرية وغيرها من الأفكار التي تضعف عملية الخلق والإبداع الفني، وتؤدي إلى سجن الإنسان داخل جسده بسبب الكبت الجسدي والفكري وكثرة المحرمات وسطوة سلطة "التابو".

تقول سكينة العوطة، طالبة سنة أولى في معهد الفنون الجميلة، لـ"ألترا صوت": "التدين لا يجب أن يكون عائقًا أمام الفنانين لأنهم يذهبون بالتفكير بما هو أرقى وأعلى من الجسد إلى درجة نسيان الحدود الشرعية، فالهدف هو إيصال الفكرة الفنية والإنسانية الشاملة والتحرر في سبيل قضايا أهم". ترى سكينة أن الطلاب عامة وخاصة الطالبات الملتزمات دينيًا قد يقعن في حالة ضياع بين متطلبات الفن وبين ما يفرضه المجتمع من تقاليد وأعراف اجتماعية ودينية، فإما أن تتخلى الطالبة عن الفن أو تخرق قواعد مجتمعها ودينها الصارمة.

في ذات السياق، تتحدث جنان سليم، طالبة ماجستير في اختصاص الفنون التشكيلية في الجامعة اللبنانية، لـ"ألترا صوت": "إنّ توصيف المادة هو نفسه على اختلاف فروع الجامعة اللبنانية. لكن تطبيق هذه المادة على أرض الواقع يختلف بين فروع الجامعة، بحسب اختلاف البيئات الاجتماعية والثقافية التي توجد بها الجامعة ففي بعض الفروع يتم تجاهل صفة "العريّ" في النموذج، ويضطر الطلاب إلى رسم موديل مغطّى بالثياب الفضفاضة. وتتابع جنان: "أنا أرفض أن يخضع العلم للتقييم الأخلاقي ولمزاجية المجتمع وتقاليده ومعتقداته الدينية، ومادة التشريح الجمالي هي علمٌ لا يقلّ شأنًا عن باقي العلوم".

وتضيف جنان: "لا يحق للمجتمع ولا لرجال الدين ولا للأحزاب السياسية فرض رأيهم بما يخص مقرّرات علميّة وضعها خبراء بالاختصاص. ولا حتى طلّاب الفنون التشكيلية أنفسهم يمكنهم الادعاء أنّ مادة ما مهمّة، أمّا تلك فلا. أصحاب الرأي المعارض لا يملكون تبريرًا منطقيًا وموضوعيًا لرفضهم هذه المادة، وبرأيي من يعارض هذه المادة لأي سبب من الأسباب، يحق له أن لا يحضرها، على شرط أن ينال ما يستحقه، وهو الرسوب".

يعترف معظم الأساتذة بأهمية مادة "رسم الموديل العاري"، لكنهم يخافون التصريح بآرائهم أو الوقوف علانيّة إلى جانب المطالبين بحقوقهم الأكاديمية أمام الإدارة، التي تخاف بدورها من ردّ فعل الطلاب الحزبيين في المعهد إضافة إلى خشيتها التعرض لأعمال إرهابية بعد تلقي تهديدات مختلفة. ويرى البعض بأن الاوضاع الاجتماعية والسياسية والمد الديني المتطرف في مراحل تاريخية مختلفة من تاريخ لبنان، فرض على الفنانين الرضوخ تفاديًا للعنف، خاصة إذا كانت المرحلة التاريخية التي تمر بها المجتمعات لا تستخدم إلا لغة الحديد والنار والقمع وكم الأفواه. فهل أصبح الواقع أقوى من قدرة الفنان على التمرد عليه في عالمنا العربي؟

اقرأ/ي أيضًا:

أي مستقبل لطلبة الدراما والموسيقى في السودان؟

الخريجون المُقصَون في سورية!