كنا صغارًا عندما بدأ ذلك الجبل فوق السهل الفسيح مقابل قريتينا يظهر، الجبل الذي سيقام عليه تمثال حافظ الأسد، مؤسس جمهورية الخوف في سوريا. كنا نقف على سطح منزلنا أو فوق الجرف الصخري المطل على البحر ونراقب بدهشة عملية ظهور الجبل وارتفاعه يومًا بعد يوم، ونتساءل: "هل هكذا تشكلت الجبال عبر التاريخ؟". كما كنا نستغرب كيف كانت الشاحنات تراكم الصخور والأتربة التي تخرج من المنطقة التي سيشاد عليها معمل الإسمنت على السهل الزراعي الذي كان ينتج الخضار، بدلًا من رميها في البحر وزيادة مساحة اليابسة، كما كان يقترح بعض الأهالي والمختصين يومها، لكن يبدو أن النظام كان لديه رأي آخر. لم يَطُل الأمر طويلًا حتى اكتمل بناء الجبل مع اكتمال تجريف الأرض التي أخذت تأتيها ورشات بناء الصوامع العالية المخيفة، بينما صار ذلك الجبل جاذبًا لنا نحن الصغار الذين كنا نسمع عنه القصص الجميلة عما سيكونه، حول الحديقة والمقاعد والمطعم ومدينة الألعاب التي ستكلل قمته.
لم يتأخر الوقت كثيرًا حتى جاء مشروع الطريق السريع الذي يصل مدينة طرطوس باللاذقية، والذي اخترق الجبل الجديد، وأخذ يقضم منه كميات كبيرة من التراب والصخور لاستخدامها في هذا المشروع فلم يتبقَّ منه سوى كتلة صغيرة؛ جبلٌ صغيرٌ لا يمكن أن تقام عليه مدينة ألعاب أو حتى مقهى صغير فأخذت فرحتنا تذروها الريح. أما وقد اكتمل بناء معمل الإسمنت ودخل في طور الإنتاج، فقد تفرغت العقول النيرة للتفكير، وتفتقت في النهاية عن فكرة مشروعٍ، أثار الأسئلة في البداية، ثم أدخل الحسرة والغم في قلوب أهل المنطقة، عندما سمعوا أن تمثالًا ضخمًا لحافظ الأسد سيقام على بقايا الجبل، وربما سيكون أضخم من تمثال مدينة دير عطية في ريف دمشق الشمالي.
انتهى بناء التمثال وأصبح بيديه المرفوعتين كأنه يريد أن يقول أنا أهيمن عليكم، لذلك كنا نشعر أنه أداة أخرى من أدوات القمع التي يستعملها حافظ الأسد لإدامة حكمه
كانت المدن تتنافس يومها على إشادة التمثال الأكبر للزعيم المؤبد، على الرغم من أن البلاد كانت قد دخلت في العزلة عن المحيط العربي والعالم بعد الجرائم التي اقترفها نظام الأسد بداية ثمانينات القرن الماضي، حين ارتكب المجازر في حماه وحلب وإدلب وسجن تدمر، وبسبب دعمه لإيران في حربها مع الشقيق العربي؛ العراق. انعكست العزلة حصارًا اقتصاديًا على النظام الذي تمتع بالدعم العربي السخي بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، وبعد دخول جيشه إلى لبنان أواسط سبعينيات القرن الماضي، بموجب قرار عربي. ثم جاءت حادثة محاولة تفجير طائرة "إل عال" المتجهة من لندن إلى تل أبيب، والتي أتُّهِمَ النظام السوري بالتخطيط لها سنة 1986، لتزيد من تلك العزلة وتنعكس على اقتصاد البلاد. الآن وقد انقطع ذلك الدعم، ودخلت سوريا في طور أزمة اقتصادية عميقة، تساءل كثيرون في سرهم، أو همسًا في أذان بعضهم: "إذا كنا لا نجد قوت يومنا، من أين سيأتي نظام الأسد بالأموال لإشادة تمثال يرتفع عشرات الأمتار ويكلف أموالًا هائلة، ستذهب لإقامة قاعدة عميقة بأعمدة تخترق الجبل الهش وتصل إلى المنطقة الصلبة تحت الجبل لتحمل عشرات الأطنان من الحديد والإسمنت التي ستشكل هيكل التمثال؟".
انتهى بناء التمثال وأصبح بيديه المرفوعتين كأنه يريد أن يقول أنا أهيمن عليكم، لذلك كنا نشعر أنه أداة أخرى من أدوات القمع التي يستعملها حافظ الأسد لإدامة حكمه. إن عجز عسسه عن مراقبتنا كنا نشعر أن التمثال يراقبنا حيث ذهبنا؛ ينظر إلى قريتنا التي تتموضع فوق الجبل المطل على البحر فتدخل نظراته إلى نوافذنا فيرانا، وربما يسمع ما نقول. يرانا على أسطح منازلنا وفي طرقات القرية، وكان يرانا ونحن ننحدر نحو الحقول التي نزرعها جانب البحر. كيفما ولينا أوجهنا هو أمامنا؛ لا تفارق نظراته أجسادنا ولا أذنيه حركات شفاهنا. كانت الفاقة قد دخلت إلى جميع البيوت، فكان الحديث عن الأموال التي صرفت من أجل تشييده. كان أبي أكثر المتبرمين منه، أطلق عليه تسمية "قاموع الخر..."، وكان يسأل دائمًا: "متى سيسقط هذا القاموع؟".
كان التمثال يكشف معمل الإسمنت ومساحة واسعة من السهل، وكان سكان القرى شمال قريتنا يرونه على بعد 10 كيلومترات. كان الجميع يشعر أن التمثال يراقبهم، بل يكشف كل من يحمِل في قلبه حبًا زائفًا للقائد. أعطى التمثال طاقة لبعثيي المنطقة، ورجال الأمن المتخفين على شكل كتّاب تقارير أمنية منتشرين بين أزقة القرية وفي ساحاتها، في المدرسة والمصنع والمؤسسة والنقابة والملعب والمقهى والطرقات والحدائق وفي وسائل النقل. كان التمثال ممثلًا للقائد؛ ثبات التمثال هناك في أعلى التل، هو ثبات للقائد في كرسيه في دمشق، وكانت صلابة الإسمنت فيه صلابة لعسس القائد الذين يَفْدونه بدمائهم وأرواحهم.
حين اندلعت ثورة السوريين ضد حكم الوارث بشار، بدأ هذا في تفكيك بعض التماثيل التي تعود لوالده لأن ذلك كان مطلبًا من مطالب الثوار، وربما خوفًا من تكسيرها إذا ما خلعت المدن الثائرة بشار وهجمت على تماثيل أبيه
حين اندلعت ثورة السوريين ضد حكم الوارث بشار، بدأ هذا في تفكيك بعض التماثيل التي تعود لوالده لأن ذلك كان مطلبًا من مطالب الثوار، وربما خوفًا من تكسيرها إذا ما خلعت المدن الثائرة بشار وهجمت على تماثيل أبيه. تنسَّمنا الأمل أن يأتي دور التمثال الذي يراقب قريتنا والقرى المجاورة فيُزال، لكن آمالنا لم تتحقق، كان علينا أن ننتظر 14 سنة لكي يتحقق حلمنا. وحين أتى هذا اليوم، في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، كانت تماثيل حافظ الأسد في المناطق التي كانت تحت سيطرة بشار، أولى أهداف الناس، كانت تنتقم من التماثيل بعدما عجزت عن الانتقام من الأب القائد والابن الوارث.
ففي الساعات الأولى للإعلان عن سقوط النظام وهروب الرئيس المخلوع بشار الأسد، توجه عدد من أهالي مدينة طرطوس إلى مبنى فرع حزب البعث المنحل بجانب شاطئ المدينة، المبنى المهجور والآيل للسقوط بسبب الفساد الذي رافق أعمال بنائه، وهناك كسَّروا تمثالًا نصفيًا لحافظ الأسد. ثم توجهوا إلى مدخل المدينة الجنوبي، حيث التمثال الكبير، من أجل رميه وتكسيره أيضًا، لكنهم فوجئوا بتجمعٍ غفيرٍ من فقراء حي الرادار العشوائي القريب، كانوا يعملون على إزالته، أما سبب المفاجأة فهي أن قسمًا من هؤلاء حال دون إزالة هذا التمثال سنة 2011، حين أزيلت تماثيل أخرى، لكن يبدو أنهم احتاجوا 14 سنة لكي يكتشفوا حقيقة بشار الذي خدعهم وأدار لهم ظهره هاربًا. أما التمثال الذي نغص عيشنا في القرية فقد احتاج إلى آلة كبيرة من نوع "النقّار" الذي ظل يعمل يومين أسفله حتى تمكن من أحداث فجوة فيه سقط بعدها على أرض التل، كأنه يقول: "وفي هذه أيضًا سأعذبكم".