29-يناير-2019

جاك دريدا (Getty)

إتقان لغة الآخر وسيلة لبلوغ صمته أيضًا. الصمت هو الهامش الكلي للكلام/ اللغة، وهو أصلًا حالة دائمة للبحث عن السؤال، عن اللحظة تؤكد هذا الوقع، ما يفترض البحث الصعب عما تريده أنت الآخر سبيلًا ومدخلًا لترى حقيقة الآخر الغائبة، رغم كل سعي الأسئلة القادمة لتحصل على بعض هذا الغياب.

دريدا أفضل من قتل المؤلف بصورة ذكية، على العكس من بارت الذي أعلن ذلك بشكل مباشر

لأفترضْ أنني على مسرح، ومطلوب مني أن ألعب شخصية دريدا، ما الذي سأفعله؟ أضيع في استحالة تكرار السؤال الدريدي، لكونه سؤالًا صعبًا، قادمًا من معطيات ومصادر شتّتها دريدا في أغلب ما كتبه، فهذا المتمرد، بكل تواضعه الزائف والذكي، يحاول أن يكون ربًّا للفلسفة.

اقرأ/ي أيضًا: جاك دريدا.. مراثي النقّاد

دريدا المختلف في كل شيء هو أفضل من قتل المؤلف بصورة ذكية، على العكس من بارت الذي أعلن ذلك بشكل مباشر، وذلك لكونه لا يقيم صلة مباشرة مع النص، بل يقطع/يفكّك جثة النص، ويبدأ بالتغييب التدريجي لكل ما يمت له بالصلة، حتى تحسّ بفقدان حلقة التوليد الأساسية لهذا النص.

دريدا قارئ كوني، يشلّ النص بسؤاله الصعب، يبدو وكأنه أفعى، هذا التحايل هو مغايرة منه ليسيطر على كل تأسيس، يسعى دائمًا للحصول على الموقف إلى جانبه، وبهذا يولّد بنقده المغاير موقفًا فلسفيًا جديدًا يسطع كهامش مهم.

أتذكر بداية تعرفي الكريهة عليه، كان ذلك مع كتابه "أحادية الآخر اللغوية". قرّرت ترك الكتاب بسرعة، وعدت فيما بعد إليه بصورة متقطعة، حتى بدأت بالتهام كتبه المترجمة عربيًا، وصرت أسعى للحصول الدائم عليها. من ذلك تمنيت لو تترّجم أعماله كاملة. بالمناسبة، من يقرأ له يقع في مشكلة القناعة بالنصوص الباقية التي تلي قراءته، لكونه يكبّر الأفكار لدى القارئ بطريقة أو أخرى، لأنه يورطه بسؤاله.

صفة أخرى له، إنه لا ينطلق من جانب يهوديته، وإن كان يريد ذلك يفعله بشكل كوني، كما في كتابه "الصفح" الذي تحرّر فيه مدافعًا عن القضية اليهودية دون أن يبين لك ذلك، وناقش مسألة "الصفح" بشكل كوني، مسألة أفراد وجماعات، والفارق التسامحي فيما لو أعطيت للفرد على أنه فرد، وفيما لو أعطي له على أنه ممثل مجتمع، أو أن القضية تمثّل مجتمعًا، وستأخذ منحى تاريخيًا فيما بعد، فلا بدّ من حتمية للموضع، تضع في الحسبان الخطاب التاريخي للجيل القادم، وكيف ستؤثر رؤية الحالي التسامحية للقادم.

دريدا قارئ كوني، يشلّ النص بسؤاله الصعب، يبدو وكأنه أفعى، هذا التحايل هو مغايرة منه ليسيطر على كل تأسيس

مرة طرحت سؤالًا: ماذا سيحصل لو فسّر دريدا وبارت، كل بلغته وفلسفته، القرآن الكريم؟ رغم أن هذه المسألة تبقى خاضعة للقداسة، وسلطة الدين ورجاله، لكنني تساءلت من باب الافتراض، ومن باب قراءتهما المختلفة لكل النصوص التي تقع بين أيديهم.

يبقى الآتي من دريدا لغة فلسفية لا تشبه لغة أخرى، في قراءته للشعر حتى، وعادة ما أردد "إن الفلسفة أعظم ناقد للشعر". دومًا يناقش بفلسفة شعرية عالية، وكأنه يخلق نصًّا فلسفيًا شعريًا من النص الأصلي.

بكل هذا، هل تعالى دريدا عن واقعه؟ أبدًا لم يفعل، بل تعدد في فهمه، وبذلك استطاع فرض رؤيته.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لماذا لا يجب تعريف التفكيكية؟

عن القارئ