29-أبريل-2022
العقلية الأمنية التي تحكم الدولة المصرية تتسبب في الإضرار بالاقتصاد (Getty)

العقلية الأمنية التي تحكم الدولة المصرية تتسبب في الإضرار بالاقتصاد (Getty)

إنها واحدة من أكثر الشركات قيمة في بورصة القاهرة ولها رصيد كبير عند المستثمرين الأجانب. كانت ستكون لها مكانة ريادية في معظم البلدان، لكن في ظل الحكم العسكري لمصر، تواجه شركته ابتزازًا كما تفعل جماعات المافيا؛ ما حدث مع رجل الأعمال المصري صفوان ثابت وشركة جهينة لمنتجات الألبان يوضح عيوب الاقتصاد المصري.

العقلية الأمنية التي تحكم الدولة المصرية، تتسبب في الإضرار بالاقتصاد المصري يومًا بعد يوم، إذ يقل عدد السياح، ويهرب المستثمرون من السوق المصرية

هذه الكلمات كانت جزءًا من مقال نشره موقع مجلة الإيكونومست، يطرح معدوه سؤال "لماذا ليست مصر مناسبة للاستثمار؟". خرج هذا التقرير إلى الضوء بعد أيام فقط من سلسلة الفيديوهات التي نشرها اليوتيوبر الأمريكي سوني والتي لاقت تفاعلًا كبيرًا وملايين المشاهدات على موقع اليوتيوب، والتي ينصح متابعينه من خلالها بعدم زيارة مصر. اليوتيوبر الأمريكي، واسمه الحقيقي ويل سونبوشنر، هو أحد أبرز صانعي المحتوى على مستوى العالم في مجال تقييم أطعمة الشوارع، ويتابع قناته على اليوتيوب أكثر من 8 ملايين شخصًا. جاء في رحلة عمل إلى مصر بداية العام الجاري محاولاً تصوير عدد من الفيديوهات لقناته على اليوتيوب لتقييم أكلات الشوارع المصرية، فما الذي حدث حتى انتهى به المطاف بأن يصرّح بأنه لن يزور مصر مرة أخرى، بل وينصح الآخرين من السائحين وصنّاع المحتوى من مختلف بلدان العالم بعدم زيارة البلد التي وصفها بأنها "أسوأ بلد للتصوير في إفريقيا". لا تبدو الإجابة بعيدة كثيرًا عن تقرير "الإكونوميست".

جولة كابوسية في مصر.. لا أنصح أحدًا بزيارة أسوأ بلد في إفريقيا

نشر سوني مقطع فيديو عبر اليوتيوب في الخامس من نيسان/أبريل 2022 بعنوان "جولة طعام مصرية.. أسوأ مكان للتصوير في إفريقيا"، ليحقق الفيديو أكثر من مليوني مشاهدة حتى الآن. يبدأ المقطع بأصوات صفارات إنذار عربات الشرطة المصرية، قبل أن يقول صانع المحتوى الأمريكي أن الشرطة المصرية استوقفته وحاولت مسح المقاطع التي صوّرها لأنها غير جميلة كفاية ولا تتناسب مع المعايير. يعرض الفيديو تفاصيل عن اعتراض الشرطة له منذ لحظة وصوله إلى المطار، وذلك بمجرد علمهم بوجود كاميرات ومعدات تصوير في حقائب السفر، وهو ما رآه أفراد الشرطة يستوجب تحقيقًا استمر لأكثر من خمس ساعات من الرابعة والنصف فجرًا حتى العاشرة صباحًا في أروقة المطار وفي طقس بارد، وفي سياق من التحقيق الذي شمل جميع أنواع الأسئلة.

بعد ما حدث معه، لجأ سوني إلى الانترنت كي يبحث أكثر عن الثورة المصرية التي لم يكن يعلم عنها الكثير، ويعلّق على ذلك أن السلطة المصرية لا زالت تعاني من آثار الخوف من الثورة وما يمكن أن تؤدي إليها رغم مرور هذه السنين الطويلة، خاصة أن وصوله مصر كان قبل الذكرى السنوية لثورة 25 يناير بتسعة أيام. اضطر سوني إلى استخراج تصريح للتصوير من الهيئة العامة للاستعلامات، تنتهي صلاحيته في الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني، ما يدعم رأيه بشأن خوف الشرطة المصرية من الثورة وما قد يحدث في ذكراها، أو من أي حراك محتمل.

نشر الفيديو الأول له من جولته في مصر في اليوم التالي، السادس من نيسان/أبريل 2022 ضمن سلسلة فيديوهات توالى نشرها بعد ذلك لتحقق ملايين المشاهدات، وجاء عنوان الفيديو "جولة طعام كابوسية في مصر.. الشرطة تعترضنا ، وحقق أكثر من 5 مليون ونصف مشاهدة حتى الآن. يبدأ الفيديو بتنويه بسيط أن التصوير تم بالهاتف الجوّال "آيفون" نظرًا لمصادرة الشرطة المصرية جميع معدات التصوير في المطار. بدأ سوني بالتجول في شوارع العاصمة برفقة المنتج المصري المعاون والمرشد له والذي قاده إلى أماكن الطعام الشعبية وسط المدينة مثل مطاعم الكشري، ومطاعم الحواوشي، وعربات الفول والفلافل، وأفران الخبز البلدي، وبالطبع نجحوا في تصوير بعض المقاطع في هذه الأماكن. بيد أن البوليس استوقفهم مرة أخرى عند حلول الثانية ظهرًا حيث كانوا مراقبين منذ خروجهم من المطار، وبالتالي تم اقتيادهم إلى قسم الشرطة.

يذكر سوني أنهم في قسم الشرطة فحصوا هاتفه وشاهدوا ما قام بتصويره من صور وفيديوهات وقاموا بحذفها جميعًا، إلا أن فرد الأمن المشرف على حذف الملفات لا يعلم كيفية التعامل المثلى مع الهواتف الذكية، فجميع الملفات المحذوفة يمكن استرجاعها بضغطة زر من سلة المحذوفات. حدث هذا الاعتداء على الرغم من حصوله على إذن بالتصوير من الهيئة العامة للاستعلامات، ولكن هذا التصريح لم يكن له أية قيمة فعلية أمام سلطة البوليس، وعندما سأل عن سبب حذف الملفات، أجابوه بأن المقاطع المصوّرة في أفران الخبز غير جميلة كفاية ولا ترقى للمعايير. تعجب سوني ساخرًا "متى أصبح أفراد الأمن صانعي محتوى وثائقي؟!"

مصر غير مؤهلة للاستثمار.. الجيش يتولى مقاليد كل شيء

تشير الإيكونوميست إلى التناقض بين الحديث الإعلامي المؤيد للأعمال التجارية، وبين تولي الجيش لمقاليد جميع الأعمال، وحقيقة أن "الجيش يمسك بكل شيء" حسب تعبير التقرير الذي يضرب مثالًا حالة رجل الأعمال صفوان ثابت، الذي بدأت مشاكله مع الدولة المصرية عندما قررت أجهزة أمنية أن تعقد صفقة وتتحصل على حصة مسيطرة من شركة جهينة، الأمر الذي رفضه صفوان وابنه سيف، فكان مصيرهم الحبس في سجن سيئ السمعة (سجن العقرب شديد الحراسة بمنطقة سجون طره بمحافظة القاهرة).

ويواجه آل ثابت اتهامات متعلقة بتمويل عمليات إرهابية وانضمامهم لجماعة الإخوان المسلمين، التي تصنفها السلطات المصرية كمنظمة إرهابية محظورة، وهو ما تنفي العائلة أي علاقة لها به. رغم ذلك لم يخضعا لمحاكمة فعلية منذ أكثر من عام ونصف، ولا زالا قيد الحبس الاحتياطي ولم تُحال قضيتهم إلى المحاكمة بعد. يوضح التقرير أن آل ثابت كانوا دومًا جزءًا من المنظومة ولم يتسببوا بأية مشكلات منذ عصر الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، حيث جمعتهم علاقات ودودة مع مبارك، وسافر صفوان إلى الخارج مع وفود حكومية لجذب المستثمرين وتقديم المشورة للوزراء. وبعدما سيطر الرئيس عبد الفتاح السيسي على حكم مصر عام 2014، تبرع صفوان بمبلغ 50 مليون جنيه مصري (7 ملايين دولار أمريكي) لصندوق تحيا مصر الذي أنشأه السيسي لمشاريع التنمية، وأخذ السيسي نقودًا من أفراد عائلة ثابت، على الرغم من صلاتهم المزعومة بالإرهاب.

أطلقت السلطات المصرية، في العام الماضي، مدينة Silo Foods  الصناعية، وهي عبارة عن مجمع لمصانع المواد الغذائية التي يشرف عليها الجيش، وتريد الشركة فتح مصنع حليب خاص بها، فكان من الضروري إزاحة منافسة جهينة. بعد اعتقال آل ثابت، حاول سيف ثابت أن يعقد صفقة مع الأجهزة الأمنية بأن يتولي إدارة شركتهم الجديدة براتب رمزي في مقابل إطلاق سراحه هو ووالده، ودون أن يأخذ الجيش حصة من شركتهم، إلا أن العرض قوبل بالرفض.

يستشهد المقال بحالة أخرى، وهي حالة رجل الأعمال رامي شعث، نجل وزير الخارجية الفلسطيني السابق نبيل شعث، الذي قضى أكثر من عامين في الحبس الاحتياطي دون محاكمة باتهامات غير محددة لها علاقة بالإرهاب، وأفرجت عنه السلطات المصرية بعد ضغوط دولية وبعد إجباره على التخلي عن جنسيته المصرية، ليخرج من أبواب السجن إلى باريس موطن زوجته. وفضلًا عن استثمارت شعث فهو أحد السياسيين البارزين المناهضين لسياسات إسرائيل، وله نشاط بارز من خلال حركة "بي دي أس"  التي تدعو إلى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها، وهي الحركة التي اعتبرتها الولايات المتحدة الأمريكية جماعة معادية للسامية.

وهناك فرضيتان لأسباب القبض على رامي شعث. الفرضية الأولى بسبب نشاطه ضد إسرائيل ومعارضته لسياسات التطبيع التي يتبعها النظام المصري الحالي وانتقاده لسياسات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والفرضية الأخرى لا تختلف عن أسباب القبض على آل ثابت. حيث يقول شعث إنه رفض السماح لشركة عسكرية بمشاركة تقنية شركته الخاصة، وصرّح أن شركته بدأت بالإفلاس ليس بسبب ضعف الأداء، ولكن لأن الجيش كان يضغط عليهم، كما يقول.

في إشارة إلى الطريقة التي يتعامل بها النظام الحالي مع رجال الأعمال، ظهر السيسي على شاشات التلفزيون في شهر كانون الأول/ديسمبر 2021 وهو يضغط على ثلاثة من مالكي شركات المقاولات والبناء لقبول التأخير في سداد مدفوعات الدولة لبناء الطرق والجسور. ابتسم رجال الأعمال بخجل واستسلموا، ماذا كان سيحدث لو رفضوا؟

يعتبر تقرير المجلة أن الحكومة المصرية تخنق القطاع الخاص، وأن السيسي يُصدر ضجيجًا مؤيدًا للأعمال في الأماكن العامة، لكن جنرالاته الذين يسيطرون على أجزاء من الاقتصاد، يهزأون من السوق الحرة، وأن نموذج صفوان ثابت وغيره من رجال الأعمال لا يشجع أحدًا على الاستثمار في مصر، على الرغم من حاجة الاقتصاد المصري الملحة لجذب استثمارات خارجية وضخ النقد الأجنبي في السوق.

فوبيا الكاميرا تتسبب في خسارة مصر لملايين الدولارات

رجوعًا إلى فوبيا الكاميرا التي  تعاني منها الأجهزة الأمنية والتي تسببت لمصر بفضيحة دولية جرّاء ما حدث مع اليوتيوبر سوني، فقد تسببت البيروقراطية والتدخلات الأمنية في خسارة مصر لمئات الملايين من الدولارات، بسبب فشل المخرج المصري محمد دياب في استخراج تصاريح تصوير لأول تعاون له مع شركتي الإنتاج مارفل وديزني لإخراج مسلسل "فارس القمر". وصرّح دياب لموقع في الفن منتصف شهرآذار/مارس 2021، أنه أبلغ شركة مارفل برغبته بتصوير العمل في مصر وليس في بلد آخر، فأغلب الأعمال الأجنبية لا تُظهر مصر كما هي، ويتم التصوير في المغرب أو الأردن أو إسبانيا، ما يُظهر مصر بشكل غير حقيقي وغير واقعي، وأنه يرغب في كسر هذه النمطية. يضيف دياب أنه واجه صعوبة منعته من التصوير في مصر أثناء محاولته الحصول على التصاريح اللازمة التي تأخرت بشكل غير مبرر، وعندما تواصل أحد المسؤولين معهم من أجل المساعدة في استخراج التصاريح، كان الأوان قد فات.

هذه البيروقراطية والتعنت في القوانين تسببت في خسارة مصر 3 مليارات جنيه، هي تكلفة إنتاج المسلسل الذي تم تصويره في دولة المجر في نهاية الأمر، واستفادت المجر من هذه المبالغ المقدّرة بحوالي 150 مليون دولارًا أمريكيًا، كانت مصر أولى بها، حسب ما يقول دياب. والأهم من ذلك أن وجود مصر في مشروع فني من إنتاج مارفل قد يأتي بدعاية مجانية بالمليارات.

متى تتوقف الأجهزة الأمنية عن الإضرار بالاقتصاد المصري؟

يعاني قطاع السياحة المصرية، أحد أهم مصادر الدخل القومي والنقد الأجنبي، منذ قيام الثورة المصرية في 2011، وازداد الأمر سوءًا بعد أحداث 30 حزيران/يونيو 2013 وما تبعها من أحداث عنف، ووصل الأمر ذروته بعد حادث تفجير الطائرة الروسية عام 2015. منذ ذلك الحين، يحاول النظام المصري استعادة موقع مصر في خريطة السياحة العالمية واكتساب ثقة الدول مرة أخرى وتشجيعها على إرسال الوفود السياحية، وتأكيد تأمينهم بشكل جيد والحفاظ على سلامتهم. كما تسعى الدولة المصرية عبر مؤسساتها الرسمية إلى حملات الدعاية المقدّرة بالملايين لأجل تجميل صورة البلد واجتذاب السائحين مرة أخرى، من خلال تنظيم تجمعات شبابية من دول العالم كما يحدث سنويًا بمنتدى شباب العالم الذي يُعقد بمدينة شرم الشيخ السياحية برعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي يحرص دومًا على المشاركة فيه، إلى جانب تنظيم فعاليات كبرى مثل موكب نقل المومياوات الملكية من المتحف المصري بميدان التحرير إلى متحف الحضارة المصرية بالفسطاط، أو حفل افتتاح طريق الكباش بمحافظة الأقصر في العام الماضي، فضلًا عن الحملات الدعائية المستمرة لوزارة السياحة المصرية.

 كل هذه الجهود وكل هذه الأموال تذهب بلا أي نتائج فعلية بسبب بيروقراطية التعامل مع السائحين، والحذر والخوف الملازم للجهات الأمنية تجاه كل من يحمل كاميرا، والتعامل على أساس كونه متهمًا أو جاسوسًا محتملًا كما حدث مع صانع المحتوى الأمريكي.

التعامل الأمني هذا تتفاوت حدته حسب كل حادث، ففي قطاع السياحة مثلًا نجد الأجهزة الأمنية المصرية تقوم بالقبض على عدد من أصحاب المتاجر السياحية في محافظة الأقصر بتهمة التعامل بالنقد الأجنبي خارج القطاع المصرفي، في الوقت الذي تسهّل فيه الإجراءات وترحب باستضافة مهرجانات موسيقية إسرائيلية على أرض سيناء، خاصة أن المهرجان الموسيقي كان مقررًا في البداية بأحد الفنادق التابعة للقوات المسلحة قبل أن ينقل إلى أحد الفنادق الخاصة.

تشير الإيكونوميست إلى التناقض بين الحديث الإعلامي المؤيد للأعمال التجارية، وبين تولي الجيش لمقاليد جميع الأعمال

هذه العقلية الأمنية التي تحكم الدولة المصرية، تتسبب في الإضرار بالاقتصاد المصري يومًا بعد يوم، إذ يقل عدد السياح، ويهرب المستثمرون من السوق المصرية خشية الدخول في صدام مع القوات المسلحة المسيطرة على الاستثمارات في المجالات كافة؛ والنتيجة خسائر يومية للاقتصاد المصري الذي يشهد فترة من المعاناة المستمرة تنعكس بشكل مباشر على حيوات المصريين ومستويات المعيشة المتدنية جرّاء موجات غلاء الأسعار المتعاقبة.