07-سبتمبر-2015

معتوق أبو راوي / ليبيا

كان يومًا عاديًا. استيقظت صباحًا، بكيت قليلًا كي تسمع أمي صوتي وتنتبه أنني جائع! أطعمتني بسرعة، لم تغن لي كعادتها، كانت مشغولة بشيء آخر. بدأت أشعر أن شيئًا غريبًا يجري من حولي، خوف أمي وقلقها كان يملأ البيت، بينما كان أبي يحاول تهدئتها، كان يستخدم جملة واحدة بعد صمتٍ طويل: "لا تقلقي، مضمونة إن شاء الله". كنت أشعر أن أبي لا يصدق نفسه حين يقول هذه الكلمات.

لم أستطع فهم أي شيء من كل ما يقال، حديث من أحاديث الكبار التي لا أعرفها، لكن حديث هذه المرة كان يبدو مهمًا، لان أمي لم تلتفت الي أبدًا. حاولت لفت انتباهها، حاولت أن أصدر بعض الضجيج، أن ألعب مع كاسات الشاي على الطاولة، كسرت إحداها عن عمدٍ وأنا أنتظر أن تنتبه أمي إلي، لعلها ستوبخني الآن، انتظرت أن توبخني، لكنها لم تفعل! اكتفت بلملمة الزجاج المكسور ونظرت إليَّ نظرة غريبة، لا تشبه نظراتها حين أقوم بعمل مؤذٍ!

كانت حزينة ، كنت أشعر بحزنها وهي تجهزني "للمشوار". ألبستني كنزتي الحمراء التي أحبها، نظرت الي بعينين دامعتين، احتضتني بقوة وهي تتمتم كلامًا لا أفهمه، وتعدني بشيء لا أعرفه! كل ما يحدث اليوم لا أفهمه!

خرجنا أنا وأبي وأمي، كان معنا عمي وأولاده الكبار، لم أحبَّ أولاد عمي يومًا، أكره ألعابهم وسخريتهم مني، كان معنا أيضًا جيراننا في الحي، كنت أراقب من هم  حولي مستغربًا هذا المشوار الذي ذهب معنا فيه كل الأشخاص الذين أعرفهم. أتذكر أنني نمت طويلًا في السيارة الكبيرة التي تأخذنا إلى مشوار بعيد، وصلنا ليلًا، كنت أشعر بالبرد الشديد، حملتني أمي على صدرها، ونمت.

استيقظتُ بعد قليل على صوت أبي يتشاجر مع أحد لا أعرفه، لم أميز صوته في هذا الليل. كانت أمي تبكي، لم يكن بكاؤها عادياً، كانت تبكي بصمت وهي تحضنني بقوة وكأنني سأطير من ذراعيها إن هي أرخت يدها التي تلفني. أشعر بالخوف، أريد أن أعود الى البيت. لم يعبأ أحد ببكائي، كان الجميع مشغولين عني، كان الجميع خائفين، مثلي.

بدأت أمي بالسير دون أن توقف بكاءها، الجو هنا يصبح أكثر برودة، اجتمعنا كلنا في مكان صغير جدًا، مكان صغير ومخيف، يهتز كثيرًا، كنت أسمع صراخ أطفالٍ آخرين بقربي. وكنت حزينًا لأنني أرى أمي تبكي بخوف، فقررت أنني لن أبكي ولن أخيفها أكثر.
لكن المكان مخيف جداً! حتى أن أمي بدأت تصرخ، وأبي أيضًا!

فجأةً تذكرت لعبة أبي المفضلة، حين يحملني بين ذراعيه ويرميني للأعلى ثم يلتقطني. كنت اأشعر أنني أطير بعيدًا، بعيدًا عن حضن أمي وذراعيها، انتظرت أبي كي يلتقطني، لكنه لم يفعل! وجدت نفسي في مكان مظلم جدًا، الماء يحيط بي، أسمع صراخ أمي من بعيد تناديني، أسمع صراخًا بعيدًا.. بعيدًا، حاولت البكاء كي تسمعني أمي، هي الوحيدة التي تميز صوت بكائي. لم أستطع، بدأ الماء يدخل إلى فمي، لم أستطع الصراخ.

بدأت أشعر بالتعب، كنت تعِبًا جدًا، قررت أن أغمض عيني وأنا أفكر بأمي التي ستجدني وتحضنني وتعيدني إلى المنزل، سأقول لها أنني لم أحببْ هذا المشوار أبدًا، فتعيدني إلى المنزل. أغمضت عيني، وتذكرت رائحة أمي، وصوتها.. ونمت.

لم أعد أذكر ما حدث بعدها، استيقظت بسرعة ووجدت نفسي خارج الماء، كان هناك عدة رجال يصيحون حول طفل صغير يشبهني، نائم على الرمل.. بحثت عن أمي ولم أجدها، لم أجد أبي، لم أكن خائفًا، كنت أشعر أنني أطير كما حين يقذفني أبي للأعلى ، لكنني لن أسقط بعد الآن. لا أدري أين أنا، لكنني لا أشعر بالخوف، لا ماء هنا ليغمرني ولا أصوات صراخ، لا مشاوير متعبة ولا أولاد عمي الذين يزعجونني دائماً بألعابهم. ليت أمي هنا كي أخبرها.. ليتها تعلم أننا هنا لا نحتاج البحث عن حليب، وأنها لن تبكي كما اعتادت حين أنام جائعًا أو مريضًا.

ليت أمي هنا، تحضنني فأشم رائحتها، وننظر معاً إلى هؤلاء الذين يلعبون على الرمال، أو في الماء، ونلعب لعبة تمييز الأشخاص من هنا.. لقد بدأت أربح في هذه اللعبة ، لقد رأيت أبي وعمي يسبحان، عليها أن تسرع قبل أن أعدّ الجميع..

ربما سأنام قليلًا حتى تأتي، دائمًا عندما أنام تحدث الأشياء بسرعة، وحين أستيقظ سأجدها قد وصلت. سأنام.. وسأحلم بهذا اليوم العادي، حين استيقظت صباحًا، وبكيت قليلًا كي تنتبه أمي أنني جائع، فأطعمتني دون أن تغني لي، لأنها كانت مشغولة البال بشيء آخر..