29-أبريل-2017

الإسكافي (لورنزو إنزو - إيطاليا)

الإسكافي ليست مجرد كلمة تدلّ على مهنة بعينها، ليست محض لافتة تعلم عن رجل فقير تعمل يداه في الأحذية البالية بإبرة قوية وخيوط متينة ليطيل في أعمارها شهورًا أخرى، ولكنها كلمة تشعرك دائمًا أنها تخفي شيئًا أسطوريًا، فيها غموض يشبه صاحبه الذي يرتق النعال والذي يحيا دائمًا بين الفقراء، لأن من يملك مالًا وفيرًا لا يُصلح حذاءه.

يحيا الإسكافي دائمًا بين الفقراء، تشتغل يداه في الأحذية البالية بإبرة قوية وخيوط متينة ليطيل في أعمارها شهورًا أخرى

ربما كانت الحكايات والأساطير هي السبب. كان "معروف الإسكافي"، أحد أبطال "ألف ليلة وليلة" الغرائبيين، يرتق أحذية أهالي المدينة ويعرف حكاياتهم وأسرارهم، وفي حكايات كثيرة جاء الإسكافي كساحرٍ عجوز قد تتحوَّل إبرته في لحظة لسيفٍ باتر وشاكوشه لمطرقة وخيوطه الدقيقة لحبال غليظة يطوّق بها جسدك.

اقرأ/ي أيضًا: من الزمن والفقر وهموم الناس.. "العرضحالجية" اشتكوا

هلّة خاطفة تجمّعت فيها كل تلك الحكايات بينما أجلس إلى "عم محمد الصُرماتي" مرتكزًا لسور حجري في أحد شوارع السيدة زينب، بسنوات عمره التي تجاوزت الثمانين، والتي قضى سبعين عامًا منها بين أحذية الناس.. هو الآخر حكاية خاصة غامضة ومليئة بالألم.

جاء "عم محمد" صغيرًا إلى القاهرة من إحدى قرى الصعيد هربًا من جحيم زوجة الأب. يتذكر، بعيني الطفل المنسي وبيقين ذاكرة تسجّل المشهد كأنه كان بالأمس، تلك الظهيرة البعيدة التي انهالت فيها زوجة أبيه على جسده لتشبعه ضربًا. يومها خرج الطفل متجهًا إلى محطة القطار، واستقلّ أول قطار متجه إلى "مصر" محشورًا في زحام الناس، يسرق قسطًا من النوم غير أن آلام جسده توقظه، فتنهمر دموعه ساخنة.

نزل من القطار وتحرّك أمتارًا قليلة حتى وجد نفسه في ميدان "باب الحديد"، وكان يسمع من أبيه عن مسجد السيدة زينب، حفيدة الرسول التي يلجأ إلى مسجدها القاهري الفقراء والمساكين وأصحاب السؤال وينامون عنده. ظل يسأل عن طريق الوصول إلى المسجد حتى بلغه بمساعدة "اولاد الحلال"، وهناك ألقى بجسده المتعب بجوار المسجد، وحين استيقظ اقترب منه أحد الأشخاص كان يعمل إسكافيًا للمنطقة، وسأله عن حكايته، وبعد أن استمع له اصطحبه معه، وبدأ يعلّمه أصول المهنة حتى أتقنها، فاستحق مكانًا دائمًا على أحد أرصفة "السيدة زينب".

يقول لك: "أنا لا مؤاخذة أعرف الزبون من طلبه.. هناك زبون يطلب منك "نص نعل" ده زبون مش نزيه. النزيه يطلب "نعل كامل". أما الزبون "التَعبان، اللي ضاربه السلك" فيطلب "نعل كاوتش"، والنعل الكاوتش يُصنع من إطارات السيارات البالية ويتم تشفيته منها".

يضحك "عم محمد" مكملًا: "كان فيه نعال بتتعمل من عجل الطيّارات القديمة، وكان بييجي زبون يشترط إني أعمله "نعل طيّارة"، قال يعني هيطير بيه وفاكره مش هينحل زي غيره!". يشرح "عم محمد" الطريقة التي "يُركّب" بها النعل الجديد للحذاء، قائلًا إنه يضع الأحذية في جردل ماء حتى تصبح طرية، بعد ذلك يقوم بتقطيع النعل على مقاس الحذاء ويقوم بتثبيته بمجموعة كبيرة من المسامير حتى يتأكد من ثباته، وأحيانًا يقوم بحياكة النعل عن طريق إبرة الأحذية التي تسمّى "إبرة الإسكافي"، وهي إبرة متينة ذات حدّين على شكل هلال يثبتان في الحذاء ويُشدّان جيدًا يمين النعل ويساره حتى يتم التأكد أن النعل صار متينًا.

ذُكر الإسكافي في عديد الحكايات والأساطير الشعبية وكان أحد أبطال "ألف ليلة وليلة"

وكأي رجل عاش حياته في الشارع بين الناس، يستطيع "عم محمد" أن يحدثك عن أحزان البشر وتجاعيدهم، يحكي لك قصصهم هو الذي لم يعرف عنهم سوى أحذيتهم. عاش أزمنة متعاقبة من أيام الملك فاروق، حين كان أغلب الناس يمشون حفاة، مرورًا بعبد الناصر "اللي كان الناس في أيامه لبسوا "جِزَم"، وكان عادي إن الناس "ترفي جزمها لأن أكتر الناس كانوا زي بعض"، ثم ما تلا  ذلك من سنوات عاشها "عم محمد" كلها "ع الحلوة والمرّة" إلا أنه يقسم بأغلظ الأيمان إن "اليومين دول أيام سواد ووقف حال ع الآخر".

زوّج بناته الثلاث وابنه الوحيد وعلّمهم، واستمر في عمله الذي شحّ رزقه لكي لا يضطر لمدّ يده لهم رغم إلحاحهم عليه أن "يرتاح" بعد رحلة شقائه الطويلة. ليس غريبًا أن يفاجئك "عم محمد" بحكاية شخص ترك حذاءه ليصلحه ثم اكتشف موته في اليوم التالي، حدث هذا أكثر من مرة، يقول: "ساعات كان أهله بييجوا ياخدوا "جزمته" تذكار، وساعات كانوا يسيبوها"، ويشير لعدة أحذية مهملة: "كل دي جزم أصحابها ماتوا وسابوهالي، جزم متصلّحة وزي الفل، لكن أصحابها دلوقتي حافيين".

اقرأ/ي أيضًا: "كول كاتس"... قِصة مزيّن شجاع

يتذكر "عم محمد" أيضًا مشاجرات بعض الأهالي في المنطقة من أقارب هؤلاء الزبائن المتوفَّون: "مرة واحد اتوفى وجات أمه ومراته كل واحدة فيهم عايزة لا مؤاخذة جزمته. كانت خناقة لرب السما واستغربت قوي قدام الموقف. مراته تقول لأمه "ما انتي خدتي ساعته وبطاقته" والأم ترد عليها "ما انتي خدتي دبلته وسنّته الفضة ومحفظته"، وفي الآخر قلتلهم "أحكم وترضوا بحكمي؟"، وإديت كل واحدة فيهم فردة، وسبحان الحي الذي لا يموت".

يبتسم الرجل مستدعيًا الحكايات التي لا تنتهي، فيقول إنه في إحدى المرات جاءه زبون ومعه 8 أحذية يريد إصلاحها جميعها، واستغرب "عم محمد" من استعجال الزبون الذي طلب الانتهاء منها في اليوم التالي، وبالصدفة مرّ عليه واحد من أهالي الحي فتعرّف على حذائه حين كان يعمل في إصلاحه، وتكرر الأمر مع ثانٍ وثالث ورابع، ورفض "عم محمد" أن يعطيهم الأحذية التي يقولون إنها ملكهم وأخبرهم بأن صاحبها سيأتي لأخذها في اليوم التالي.

في اليوم التالي جاء صاحبنا وجاء الناس، واكتشف "عم محمد" أن الزبون سرق الأحذية من مسجد السيدة زينب: "طبعًا أخذ الطريحة المتينة، وأنا كنت مستغرب أصلًا من الحرامي الغبي ده: ما يستنضف الجزم اللي بيسرقها؟! ولو كان لا بد، ما يودّيها لأي إسكافي بعيد عن الحي، جايبهالي وأنا قاعد جنب الجامع بشبر؟!".

يضرب كفًا بكف، لا يزال يندهش من أحوال البشر، له أيضًا كوابيسه الخاصة، عيناه اللتان بدأ نورهما يأفل تخطئان كثيرًا فتحة الإبرة بينما يُدخل فيها الخيط، يداه المرتعشتان، قبضته التي يجاهد ليحكمها على الشاكوش، زبائنه القليلون، يخبرك: "الناس زمان كانوا فقرا لكن كانوا محترمين. دلوقتي الواحد بيشوف حاجات غريبة. مرة شاب جابلي جزمته قاللي عايزها دلوقت، ولما قلتله لسة هنقعها في الميّة، راح مطلع مطوة وفاردها في الهوا وطيّر بيها النعل وقال لي: أديني نقعتهالك هتخلص إمتى؟". حكايات لا تنتهي. يقول لي: "تخيّل، ساعات شاب يقرّب مني ويقول لي "بتلمَّع؟"، مش عارف الفرق بين الجزماتي والصرماتي؟ الدنيا اتغيّرت قوي".

ليس "عم محمد" فقط هو من شاخ ولكنها مهنته نفسها: "دلوقتي الصُرَماتية فاتحين محلات وعندهم مَكَن، بهوات، في دقيقة واحدة يدّيك جومتك ويقبض تمنها". تركني يومها وراح ينظر بعيدًا، وبدا مثل شبح إلى جانب جدار يعلن عن يتمه، متوحّدًا في خريفه، شبح يهمهم لنفسه بعبارات فشلت أن ألتقط أيًا من مفرداتها. لم أكن أعرف أنه سيموت بعد أيام، وأنني عندما أزوره في المرة القادمة سأفاجأ بمكان جلسته خاليًا ليخبرني الناس أن "عم محمد" قد رحل بهدوء، مودعًا صخب الدنيا وزحامها.. وأحذيتها البالية.

اقرأ/ي أيضًا:

أم خليل القصّابة.. تتحدث عن "مهن القسوة"

العراق.. أطفال في مهن القسوة والعنف