31-ديسمبر-2019

الفنان اليمني الراحل أبو بكر سالم (أ.ف.ب)

بدأ تاريخ الأغنية الحضرمية في النصف الأول من القرن الـ19 الميلادي. لكنها ظلت حبيسة نطاقها الجغرافي، حتى حررها أبو بكر سالم، الفنان اليمني الحضرمي، الذي لا تزال أغانيه العاطفية والوطنية يتردد صداها إلى الآن، وكأنها صيغت لكل الأزمان.

ظلت الأغنية الحضرمية حبيسة نطاقها الجغرافي، حتى حررها الفنان اليمني الراحل أبو بكر سالم وطاف بها بقاع العالم العربي

يُفسر هذا شغف الملايين بأبي بكر سالم، أو "أبو أصيل" كما يُكنى،  وأغانٍ له مضى عليها ما يربو على نصف قرن. والآن، وبعد مرور عامين على رحيله عن الدنيا، يتساءل كثيرون: كيف استطاع أبو بكر سالم أن يفعل ما فعله وعجز عنه غيره؟

اقرأ/ي أيضًا: الفنان اليمني كرامة مرسال.. غنّى بلادًا لا تُعزّيه!

أبو بكر سالم بين تريم وعدن

في مدينة تريم الواقعة بمحافظة حضرموت شرقي اليمن، ولد أبوبكر سالم بن زين بلفقيه عام 1939. ومن تريم انطلق مشواره الفني في سن مبكرة، فحين كان في الـ12 من عمره، بدأ بأداء الأناشيد التواشيح في المناسبات الدينية.

وحين بلغ الـ18، غادر سالم إلى مدينة عدن جنوب اليمن، وهناك سعى لإثبات وجوده الفني، في وقت كانت عدن تعرف نهضة ثقافية وفنية، ميزتها عن باقي مدن ومحافظات اليمن.

في عدن، انضم أبو بكر سالم لفرقة إسكندر ثابت صالح التي كانت تحيي الحفلات يوميًا. وكان سالم يعزف فيها الإيقاع. ومن خلال عمله مع الفرقة، تعرف سالم على عدد كبير من الفنانين والشعراء، أمثال لطفي جعفر أمان، وأحمد بن أحمد قاسم، ومحمد سعد عبد الله، ومحمد مرشد ناجي.

أتاح محمد مرشد ناجي، أول فرصة حقيقية لسالم، بأن قدمه ليغني بصوته في عدد من الحفلات التي كانت تقام في عدن موسميًا. حقق سالم نجاحًا كبيرًا في هذه الحفلات، وفُتحت له بوابة المجد والشهرة، خاصة بعد أن بثت حفلاته على الإذاعة والتلفزيون.

في تلك الفترة قدم سالم أغنية "يا ورد ما أحلى جمالك". كان ذلك تحديدًا في عام 1956، وكانت تلك أول أغانيه الخاصة، من كلماته وألحانه. تلاها بأغنية "لما ألاقي الحبيب"، والتي نالت شهرة واسعة.

ثم انفتح سالم للغناء على العديد من الشعراء. وخلال تلك الفترة من الازدهار الفني المبكر، تعرف سالم على الشاعر حسين المحضار، الذي كتب له أشهر أغانيه، وكان أولها أغنية "ليلة في الطويل". ومنذ ذلك الحين، ترافق سالم والمحضار، وشكلا ثنائيًا فنيًا فريدًا لسنوات طويلة، حتى فرق الموت بينهما.

الانتشار عربيًا

بعد سنوات من النجاح الكبير الذي حققه أبو بكر سالم في عدن، قرر أن يخوض غمار تجربة هجرة جديدة، فسافر إلى العاصمة اللبنانية بيروت، والتي كانت محطة هامة للفنانين والمثقفين العرب.

في بيروت، بقي سالم 18 عامًا. وهناك تعرف على عدد من كبار نجوم الفن في العالم العربي خلال فترة الستينات والسبعينات، أمثال جورج شلهوب وعبود عبدالعال ووديع الصافي.

ومن بيروت أطلق سالم روائعه الغنائية، مثل "الحلاوة كلها من فين" و"كل شي إلا فراقك يا عدن" و"يا طائرة طيري على بندر عدن" و"متى أنا أشوفك"، وأشهر أغانيه "24 ساعة" التي حازت جائزة "الكاسيت الذهبي" من إحدى شركات التوزيع الألمانية، لأنها وزعت أكثر من مليون نسخة. كما حاز أبو بكر سالم جائزة "الأسطوانة الذهبية" في أثينا على ألبوم "متى أنا أشوفك" الذي وزع أكثر من أربعة ملايين نسخة.

كانت بيروت بوابة الشهرة عربيًا وعالميًا بالنسبة لسالم. وفيها حقق طموحاته الأولى. في إحدى لقاءاته التلفزيونية، قال سالم: "كان يراودني الحلم بأن أغني الأغنية الحضرمية وخلفي الأوركسترا، وأن أخرجها من النطاق الضيق، الغناء بالعود والإيقاع فقط، ونجحت في تحقيق ذلك من بيروت".

وفي بيروت تخطى أبو بكر حلمه بتأدية الأغنية الحضرمية بنفسه، إلى أن جعل فنانين لبنانيين وعرب أمثال فدوى عبيد وهيام يونس ونجاح سلام  ووردة، يؤدون الأغنية الحضرمية بألحانه الخاصة. كما أعاد تسجيل عدد من أغانيه التي كان قد سجلها سابقًا في عدن، بتوزيع موسيقي جديد.

لكن حالة النجاح الكبير التي حظي بها أبو بكر سالم في بيروت، لم تستمر للأبد، بسبب اضطراره إلى مغادرة بيروت تحت وطأة الحرب الأهلية اللبنانية، آفلًا إلى عدن، ومنها إلى الكويت التي عاش فيها فترة من الزمن.

من الخليج إلى لندن

انتقل أبو بكر سالم إلى منطقة الخليج العربي، متنقلًا بين مدنها، فعاش في الكويت فترة، وفي جدة والرياض ودبي. وهناك أنتج عددًا من أشهر أغانيه مثل "يا سهران" و"أنا سبب نفسي بنفسي" و"رسولي قوم". 

وخلال فترة إقامته في منطقة الخليج العربي، لحن سالم لعدد من كبار الفنانين الخليجيين، أمثال طلال مداح وغريد الشاطئ وطارق عبدالحكيم. كما دعم عددًا من الفنانين الشباب مثل راشد الماجد وعبدالمجيد عبدالله وأسماء المنور وفايز السعيد، وغيرهم.

ثم في عام 1983، وقف أبو بكر سالم بقاعة "ألبرت هول" الملكية في العاصمة البريطانية لندن، مغنيًا لساعات طويلة، في حفلة اعتبرها النقاد بداية تدشين مرحلة الانتشار العالمي للأغنية الحضرمية على يد سالم.

السر وراء أبو بكر سالم

سجلت مسيرة أبو بكر سالم نحو 60 عامًا من التميز الفني الذي فاق أي نظير له في اليمن. يطرح هذا التميز تساؤلًا عن السر وراء أبو بكر سالم.

للإجابة على هذا التساؤل، التقى "الترا صوت" برفيق أبي بكر سالم، الشاعر الغنائي بدر بن عقيل، والذي قال: "كسر أبو بكر سالم المألوف في الغناء يمنيًا وحتى عربيًا، من خلال عدة نواحي، مثل: مسرحة الكلمة المغناه نفسها، والقدرة على إيصالها عبر المحطات التي مر بها من تريم إلى عدن إلى بيروت فالخليج ثم القاهرة".

ويبدو أيضًا أن رحلة سالم بين العديد من العواصم، طبعت تنوعًا فنيًا أثرى تجربته، ومن خلال ذلك "شكّل الفنان مدرسة فنية متكاملة ما بين اللحن والكلمة والأداء، لها بريقها وخصوصيتها. استطاع أن يوصلها للعالم العربي، وجذب لها أيضًا عدد من الفنانين العرب لتأديتها"، يقول بدر بن عقيل.

من جهة أخرى، تميز أبو بكر سالم، في وجهة نظر محمد أنور عبدالعزيز، رئيس جمعية الفنانين الحضارم، في أنه "تعمق في التراث الحضرمي واستطاع توصيله بشكل جديد كليًا، وبهذا تمكن من تطوير المدرسة الموسيقية الحضرمية".

ويضيف أنور عبدالعزيز لـ"الترا صوت": "أدخل أبو بكر سالم آلات موسيقية حديثة لم تكن موجودة في الأغنية الحضرمية، كما أنه أسس لأسلوب غنائي جديد على مستوى اليمن والخليج وذلك باستنطاق النص الشعري وجدانيًا بأبعاده المختلفة، فرحًا أم حزنًا، هذا إضافة إلى تمكن سالم من إجادة الغناء بؤسس علمية وفقًا للسلم الموسيقي".

ثمة إجماع إذًا على كون أبي بكر سالم "مجددًا" في الأغنية اليمنية والحضرمية خاصة، الأمر الذي أشار إليه عوض بن سحاب عازف العود اليمني ورفيق سالم في الكثير من حفلاته وأغانيه. وقال ابن سحاب لـ"الترا صوت": "استطاع سالم أن يؤسس مدرسته الخاصة من خلال تجديده لألحانه، وحرصه على أن تكون كل أغنية مختلفة عن السابقة لها".

وعلى عكس كرامة مرسال، كان أبو بكر سالم محظوظًا بتلقيه التكريم اللازمة من الدولة اليمنية، التي أصدرت طابعًا بريديًا باسمه، ومنحته عدة أوسمة رفيعة، وجوائز كبيرة.

سجلت مسيرة الفنان اليمني أبو بكر سالم نحو 60 عامًا من التميز والنجاح الفني الذي فاق أي نظير له في اليمن

وفي كانون الأول/ديسمبر 2017، توفي الفنان اليمني أبو بكر سالم، بعد سنوات من الصراع مع أمراض في القلب والكلى. توفيًا سالم عن عمر يناهز الـ78 عامًا، ونحو 60 عامًا منهم ذاخرة بالفن، والشهرة والمجد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الغناء اليمني ومذاهبة.. ينابيع الثراء الروحي

 المنشد اليمني سليم الوادعي.. ابتهالات إلهية في زمن الحرب