01-ديسمبر-2016

الزاهي مع أحد محبيه

لا يستطيع الغريب عن الجزائر العاصمة، أن يُدرك عفويًا سرّ الحزن الذي يسكن الوجوه والعيون هذه الأيام، لدى الكبار والصّغار، حتى أن الكلام قلّ في الشوارع والمقاهي والحانات، فالكلّ يتصرّف ويتحرّك كما لو أنه فقد أباه. لقد رحل شيخ الأغنية الشعبية عمر الزّاهي.

ما معنى أن تدخل حديقة، فتجد شابًّا غارقًا في دمعه، تسأله عن السبب، فيندهش لأنك لا تبكي مثله عمر الزّاهي؟

اقرأ/ي أيضًا: حمزة جاب الله.. حين تنقذ السينوغرافيا المسرح

العاصمة بكلّ أزقتها تحسّ باليتم، وتحاول أن تطلق صرخة يردّدها البحر، لكنّها تقمع تلك الرغبة، احترامًا للرّاحل نفسه، لأنه عاش ومات بعيدًا عن الصّراخ، وهي تحترم صمته احترامها لفنّه الذي قالها من الدّاخل، ورافق أعراسها ولحظاتها الحميمة المهرّبة في الليالي البيضاء والسّوداء.

ما معنى أن تدخل حديقة، فتجد شابًّا غارقًا في دمعه، تسأله عن السبب، فيندهش لأنك لا تبكي مثله عمر الزّاهي؟ تركب الحافة، فيطلق سائقها أغنية "زنّوبة" ويطلق معها دموعَه، ثمّ خوفًا من أن يفقد توازنه، يركن الحافلة جانبًا، ويشرع في نشيج يشاركه فيه الجميع؟ تنزل إلى شاطئ الكيتاني، فيصادفك رجال النبيذ، وحناجرهم تردّد أغنية "غدر كاسك يا نديم"، بينما تنافس عيونهم البحر في البلل؟ تصعد إلى مقام "سيدي عبد الرحمن الثعالبي"، فتستقبلك شموع أشعلتها الصبايا والعجائز لروح صاحب أغنية "يا رب العباد"؟

في ساحة الحمام، قبالة فندق السفير، التقطتُ هذا الحوار بين شيخين طاعنين في الوجع: "رحل الزّاهي يا خويا/ نعم.. لقد رحل من غير أن يُعفّر أنفه في التراب/ أفشل كلّ محاولات السلطة في أن يظهر في قنواتها، حتى أن تلفزيونها لم يجد له، حين أعلن موته، إلا تسجيلات قديمة وقليلة/ كان لا يغني إلا في أعراس الشعب/ تعرف يا خويا؟ أقسم أنني علمت أنه سيُسْلِمُ الرّوحَ، حين علمت أن الحكومة قرّرت أن ترسله للعلاج في الخارج، مراهنة على غيبوبته، لأنه ما كان ليقبل منها ذلك، مثلما لم يقبل أن ترسله إلى الحجّ سابقًا/ لو حضر الشبّان الذين غنّى في أعراس ختانهم وزواجهم مجّانًا، لما وسعتهم المقبرة".

يقتصر إعلان الحكومة الجزائرية الحدادَ على الرؤساء والملوك، ولا يتعدّاه إلى الشخصيات التي أحبّها الناس

اقرأ/ي أيضًا: فتح النور بن إبراهيم.. حين يمرض العرّاب

في الأثناء، رأيت صورًا على صفحة الممثل مهدي قاصدي من "فرقة السكاملة"، لهؤلاء الشباب في ساحة بيته بحي "الرّونفالي"، كانوا ينتحبون ويرفعون أيديهم إلى السماء، طالبين منها أن ترحم "عميمر"، هكذا يدلّعونه. اقتحمني سؤالان: ولد الرجل عام 1941 وولد هؤلاء في السنوات الثلاثين الأخيرة، فما ربط بينه وبينهم؟ لماذا لا يعتبر بعض رجال الفن والأدب في الجزائر، بحياة عمر الزاهي، فينتمون إلى الشعب، لا إلى نظام يوظفهم في مسعى استمراره؟
ووجدت الإجابة في عبارة ستيفن زويغ التي استشهد بها الباحث مهدي براشد: "إن حياة كاملة ومنطقية لا يمكنها أن تتحقق إلا في فضاء خالص من الفردانية المنعزلة، بعيدًا عن الآخر. لذلك وفي كل الأزمنة، طريق القديس يؤدي به إلى الصحراء كمستقر وحيد له وبيت وحيد يلائمه".

انتابني سؤال آخر، وأنا أشقّ قصبة المدينة، هابطًا إلى المسرح الوطني: لماذا يقتصر إعلان الحكومة الحدادَ على الرؤساء والملوك؟ فيدل كاسترو مثلًا؟ ولا يتعدّاه إلى الشخصيات الفنية والرياضية التي أحبّها الناس لأنها أسعدتهم وساهمت في تشكيل وعيهم؟ وتحوّل السؤال إلى قناعة، حين التقطت أذناي عبارة قالتها جارة لجارتها، وهما تملآن نافذتين متقابلتين: سأكتفي الليلة بوجبة باردة، إذ لن يطاوعني قلبي في أن أطبخ ليلة رحيل الزّاهي.

اقرأ/ي أيضًا:

علي يماني.. تسخير اللون لانعتاق الإنسان

إسماعيل مالكي.. أن تترصّد للموت بصورة