10-فبراير-2017

عمر أميرالاي (1944- 2011)

مرّت الذكرى السادسة على رحيل المخرج السينمائي السوري عمر أميرالاي (1944- 2011) منذ أيام. ولما لذكر اسمه من وقعٍ، ترتبك اليد كثيرًا قبل أن تكتب، لا حيلة لي للبدء إلاّ الكثير من المشاهدات، ستة أفلام نتنقل بينها، تأخذك الكلمة إلى ثقل الصورة وبالعكس، تشاهد وتتأمل ما توفر من أعمال سينمائية قام بها أميرالاي. إذا كان هناك مجالٌ للقول اليوم فماذا سنكتب في ذكرى وفاة كهذه؟ 

بين الحكايات الهامشية لأبطال منسيين يعيش اسم المخرج السوري عمر أميرالاي اليوم

من بوابة الصورة إلى بوابة الكلمة يعبر منسلًا بين التفاصيل، من الطبقة إلى القنيطرة ودمشق، ثم بيروت، يمشي بين التواريخ متأملًا حربًا هنا، مكانًا منسيًا هناك، شخصًا ما قضى نحبه هنا، وآخرون يعيشون هناك. وأسماء طُبعت بها الذاكرة الخفيفة لما بقينا نتذكره.

اقرأ/ي أيضًا: في رثاء حسين الحسن

دياب الماشي وطلائع البعث والفلاحين، الدجاج، الماء والعمال وأهل الأرياف، ميشيل سورا وروجر، زوجته، رفيق الحريري في بيته وطائرته وكل الثروة البادية على عينيه، وتفاصيل بأسماء كثيرة صارت أفلامًا، بدأها عام 1970 بفيلم "محاولة عن سد الفرات" حين كان شابًا مرحّبًا بمشاريع التطوير في سوريا، بعدها تُركت هذه المحاولة ورجع إليها عام 2003 بفيلمه الأشهر "الطوفان في بلاد البعث"، منتقدًا ماحملته هذه المشاريع من بؤس على حياة جزءٍ كبيرٍ من الناس المهمشين والبسطاء.

بين الحكايات الهامشية لأبطال منسيين يعيش اسم أميرالاي اليوم، فتراه تارةً يلوح بين تفاصيل حكاية الباحث سورا المختفي، وتارةً عند رائحة طبق السردين، وكثيرًا ما تصادفه على وقع خطوات ذلك "الرجل ذو النعل الذهبي"، لقطة مقربة لحكاية رجل واسع النفوذ والسلطة، ويمطتي مرات عديدة ذاكرة المكان والوقت، معششًا على صوت أهازيج حفر سدّ الفرات، على جانب الطوفان أراه. يستمع لأحاديث الرجل الملثم في قاربه، ويحدثنا أيضًا عن بيته الذي غمره الماء. 

ماذا سنكتب في ذكرى وفاة كهذه؟ أتذكر حين سمعت بخبر الوفاة كان عمري تقريبًا ثمانية عشر سنة ولم أكن أعرف من هو، ولكن سقوط لفظة اسمه على السمع بدت قوية، فرحت أبحث عن هويته وأسأل من المتوفي. شاهدت الطوفان مع الجميع وبنفس الوقت، حين كان طوفانًا آخر يجري، أمّا الحياة اليومية في قرية سورية فوصلت إليها متأخرة، لا أعرف ما الذي جعل من يوميات الأبيض والأسود تلك حفرًا عميقة في النظر والعقل. هل حقًا هي الحياة اليومية ما يحرّك الصورة؟ والتي يتراءى لي من خلالها عمر أميرالاي ممسكًا بخيوط الكلمات وممرات عبورها منه باتجاه من يحاوره، أو في حالات أخرى يكون فيها هو الراوي، ومن ثم تكمل تلك الكلمات مسيرتها إلينا، هكذا يختزل كلماته ويرصد لحظات ضياعها، فيترك مدير المدرسة في القرية صامتًا بضع لحظات بعد أن أنهى ما حفظه من كلماتٍ في مديح القيادة الرشيدة على حدّ تعبيره، مساحة الصمت هذه تحرك شغف السؤال حول كل ما لا يقال، وحول قصة ذلك المكان. 

تلك الحكاية التي لا تنطوي على الكلمات والبوح فقط، بل تتجاوز اللغة وتتقابل مع أجزاء من الرغبة في القول حول حكاية القرية السورية، وعلى الجانب من هذا التسجيلي، تكونت الكلمة مرة أخرى على طريقة البورتريه، ولكن ليس عن سيرة، بل عن مواقف لمثقفين كانوا بمواجهة واقع متهشم يتأثرون منه. كفيلم "في يوم عادي من أيام العنف قتل صديقي ميشيل سورا" 1996، الذي يتحدث فيه أصدقاء ميشيل عن شخصه واختفائه ومن ثم موته، حين تم اختطافه في لبنان عام 1985 من قبل جهة أطلقت على نفسها اسم "الجهاد الإسلامي". ميشيل الذي كتب عن سوريا ورصد تفاصيل العنف فيها، وكيفية توسع وتطور آلية السلطة، كتب عنها كتاب "الدولة المتوحشة" ورسم عنه أميرالاي صورًا تشبه بمأساويتها تلك الحرب في لبنان، التي نمت على أطرافها عصابات القتل، وغيّرت التاريخ الشخصي لبطل هذا الشريط التسجيلي ودفع حياته ثمن لكلماته.

في فيلم "طبق السردين"، أفسح أميرالاي المجال للذاكرة والوجدان ليحكيا حكاية الجولان والاحتلال

وفي فيلم "هناك أشياء كثيرة كان من الممكن أن يتحدث عنها المرء" 1997 تبدو اللغة، مع المسرحي سعد الله ونوس، أقل انكفاءً وأكثر بؤسًا، جيرها لتكون صورةً عن مشهدٍ مأساوي يرزح تحت ثقله المفكر والمثقف مرتين، مرةً بمرضه ومرةً باليأس والخذلان بعد نكسة حزيران، وزيارة السادات لإسرائيل، متنبئًا بمرارة لعينة ستحل على الأمة. من نافذة إحدى مشافي دمشق هناك حيث تبدو البلد كلها بحاجة لقطرات السيروم، التي يتغذى عليها المفكر المريض. فيبدو في صمته خذلانًا كبيرًا يقف وراء اللغة ويجره المجتمع بأكمله.

اقرأ/ي أيضًا: غودار: السينما خسرت المعركة

في "طبق السردين" 1997، يفسح أميرالاي مجالًا للذاكرة والوجدان ليحكيا حكاية الجولان والاحتلال، فيختبر المخرج من خلال رائحة طبق السردين ذاكرته التي تقارب بين الرائحة ولفظة الاحتلال. من سينما القنيطرة تلك التي يصور فيها مشاهد من الفيلم، حيث الدمار تحديدًا لا تقول الذاكرة أشياء كثيرة، فنتأمل المكان ونتخيل حين بات من الضروري الوقوف هناك بعض الوقت. 

أمّا عن فيلم "الرجل ذو النعل الذهبي" 1999 فدخلت اللغة إلى الفيلم من خلال أميرالاي نفسه. حيث أصبح فيلمًا عن أميرالاي والحريري، مثقف ورجل سلطة، وقبل ذلك نسجًا عن رجل ومؤسسة وخطط سياسية اقتصادية، توصيف حكاية عن رجل فقير صار بنعلٍ لا يعلق عليه الغبار. فعليًا لا يمشي الحريري على الأرض ولا يرى الأرض والناس. لا يحب نعته برجل المال، يدافع عن مكانته بالتفاخر بالذكاء والطموح. يأخذ منه أميرالاي مسافةً قريبة لم تحدث مع غيره، فكان الحريري بعينه بدون أسرار ووصفات النجاح تلك رجل عادي يشبه حكاية تُحكى قبل النوم.

تعتبر هذه الأفلام الخمسة آخر أعماله وأشهرها، تضاف إليها "الحياة اليومية في قرية سورية". ولكنها لا تنتهي هنا فما زال هناك الكثير مما لم نحظ بعد بفرصة مشاهدته لعدم توفره. ولم تنته جملة طويلة أو سلسلة من الصور التي ارتبطت بالمكان واسم عمر أميرالاي، كما فعلت الكلمات في رصدها للتفاصيل وبوحها عن كل ما خُفي. 

الذي أعرفه جيدًا أن ذلك الاستذكار الموصوف يرتبط بوقوع الذكرى، ولكن ما لا أعرف لماذا يختبئ الموت بين كل تلك التفاصيل، فما إن يأتي ذكره حتى تتدحرج الصور، ككرة تولد أحياء وأموات، ليس لأن أميرالاي صانع صورة بل لأن حتى الإبحار في تفاصيل أفلامه لا يكفي لاحتواء ذكرى الوفاة هذه، ليعود السؤال نفسه من جذر اللغة، ماذا نكتب في ذكرى كهذه؟ 

اقرأ/ي أيضًا:

محمد كامل القليوبي.. غياب حادي سينما التسعينيات

عزّوز عبد القادر.. أن تسحب أفريقيا إلى المسرح