19-يناير-2020

لا وجود لعمال "القطاعات الوسخة" في اليوتوبيا الخضراء لأحزاب اليسار الأوروبي والأمريكي (Getty)

قبل حوالي شهرين فقط، في المنتصف الثاني من شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2019، أعلن حزب العمال البريطاني عن إصدار بيان جريء، بمثابة دعاية انتخابية مفصلة لزعيمه جيرمي كوربين. قالت صحيفة الغارديان، إن "كوربين قد أطلق بالفعل أكثر بيان راديكالي منذ عقود" حسب الافتتاحية التي نشرتها.

لا توجد إشارات واضحة أو كافية إلى مستقبل العمال، ممن سيكونون ضحايا ضحايا الحرب على قطاعات النفط والغاز، مع الموجة الجديدة التي يشهدها العالم نحو أشكال طاقة أقل ضررًا

أحدث "المانفيستو" ضجة واسعة، وتصدرته وعود حاسمة بفرض ضرائب على شركات كبرى وأثرياء. توقع خبراء أن اللغة الجريئة للبيان، ستعزز من احتمالات العمال البريطاني في الانتخابات. لكن ما حدث بطبيعة الحال، لم يتعد  مصير اليسار الراديكالي في معظم مناطق العالم، وانتهى التصويت إلى خسارة بدت واقعية لحزب العمال.

اقرأ/ي أيضًا: يسار ساندرز ويسار سيريزا.. بلا تشبيه!

لم تكن وعود كوربين الكبرى، بفرض جبايات هائلة على الضرائب متقاطعة مع تصور بيئي جديد مناهض للتلوث، لتؤول لنجاح كبير بطبيعة الحال، ولم تُقنع خطاباته عن الانتصار القادم و"مجد العمال" جزءًا كبيرًا من العمال أنفسهم. وربما كانت الشرائح الوحيدة التي زاد من استقطابها، هي طبقات وسطى منتفعة من خطاب  البيئة، والمؤسسات غير الحكومية العابرة للحدود.

الوعود الراديكالية نفسها، أطلقها المرشح الديمقراطي للرئاسيات الأمريكية في نهاية العام الجاري، بيرني ساندرز، حيث نشر عبر صفحاته في مواقع التواصل الاجتماعي، عبارات تؤكد على ضرورة فرض ضرائب كبيرة على الأثرياء، بلغات عديدة من العالم، منها العربية. لكن تلك الوعود الكبيرة التي يطلقها، لا يبدو أنها تحرز تقدمًا كبيرًا للرجل السبعيني، الذي تشير تقارير أنه من نخبة الـ1 بالمئة الأكثر دخلًا التي يناهضها.

لكن لمً لا يصوت جزء كبير من العمال لحزب ثوري يُفترض أن يمثل مصالحهم؟ لا يتعلق الأمر بـ"بسطاء ضللتهم الشعبوية"، كما تفترض السردية الأساسية لليسار الديمقراطي في العالم. كما أن الوعود التي أطلقها كوربين وساندرز لا تبدو أقل إثارة أو "شعبوية" من الوعود التي يطلقها اليمين القومي. إن الحقيقة البسيطة والصادمة وراء هذا الفشل، أن هناك عمالًا بالفعل يتضررون من السياسة "المناصرة للعمال" التي تنتهجها تلك الأحزاب.

على سبيل المثال، فإن "مانفيستو" حزب العمل البريطاني الجريء، يتضمن زيادة هائلة في الضرائب المفروضة على شركات النفط، من منطق بيئي وعمالي، كما أوضح مسؤولو الدعاية الانتخابية في الحزب. قد يبدو الأمر للوهلة الأولى وكأنه مرتبط فقط بالهجوم على المستثمرين من أصحاب المليارات في تلك القطاعات. لكن هذا السيناريو يحدث فقط في عالم يتخيله كوربين وساندرز ومن يمثلونهم؛ عالم مقسم بشكل صارم وواضح إلى طبقات، ويحدد هذا التقسيم كل تفصيل فيه.

أما ما حدث فعلًا، في العالم كما هو خارج يوتوبيا تلك الأحزاب، أن العمال أنفسهم في القطاع عينه، والنقابات التي تمثلهم، كانوا ممن يخشون أن تتضرر دخولهم وفرصهم في العمل، ومن أوائل المنددين بحملة كوربين والمحتجين عليها، خاصة في مناطق مثل اسكتلندا. وبالتأكيد فإن كبار المستثمرين في قطاعات "خضراء" مناصرة للبيئة، سيكسبون الرهان على حساب هؤلاء العمال.

وعد المرشح اليساري للرئاسيات الأمريكية القادمة أيضًا بمعاقبة شركات الوقود، وفرض ضرائب عالية عليها، وإنهاء القطاع جميعه خلال 30 عامًا فقط، مع تحويل البلاد كليًا إلى الطاقة النظيفة. لكنه بدا منتبهًا أكثر من كوربين أنه لا يعادي بتلك الطريقة رجال الأعمال فقط، ولكن العمال أيضًا، وبالتالي فقد وعد "بانتقال سلس" لهم إلى قطاعات أخرى، وأكد أن هؤلاء العمال "ليسوا أعداءنا" لكن "التغير المناخي" هو عدونا. وهو طرح لم يبد مقنعًا للعمال أنفسهم كما تشير تقارير، ولا حتى للنقابات التي تمثلهم. كما أن المرشح الراديكالي لم يقدم أي خطة مفصلة، للآلية التي يمكن من خلالها نقل عدد كبير من العمال، بخبراتهم وما اكتسبوه إلى قطاع جديد، رغم إشارته إلى ضمان "إعالتهم" لخمس سنوات أو توفير تقاعد مبكر لجزء منهم.

إن الاقتصاد المعاصر في بريطانيا والولايات المتحدة، وفي معظم العالم هو اقتصاد قطاعات وليس اقتصاد طبقات فقط. وهي خلاصة أولية تحاول أحزاب العمال وأحزاب اليسار للأسف تجاهلها دائمًا. بمعنى أنه يمكن لأي قرار اقتصادي أن يضر أو ينفع قطاعًا اقتصاديًا (النفط، النسيج، الهايتيك، إلخ) بأثريائه وعماله، لكنه لن ينفع أو يضر بالضرورة طبقة بعينها. ومن الواضح أن هذا الفهم الأحادي للمجتمع، تسبب بالنجاح المستمر لـ"شبح" اليمين، الذي يتغنى كوربين وساندرز بمواجهته.

لا يمكن فهم المجتمع اقتصاديًا باعتباره طبقات فقط. وإنكار هذه الحقيقة، هو ما ساهم حسب آراء كثيرة بأن أحزاب اليسار تفاجأت بأن الشعبوية اليمينية نجحت على أكتاف شرائح واسعة من العمال، الذين تضررت قطاعاتهم بفعل التحولات الاقتصادية ما بعد الصناعية وسيطرة قطاعات الخدمات. هؤلاء العمال أنفسهم، من البيض الفقراء غالبًا، المتضررين من التحولات المذكورة، هم حسب ما تشير الأرقام القواعد الأساسية لدونالد ترامب. وقد كان هناك مشترك أساسي بينهم جميعًا، وهو أنهم كانوا ضحايا تآكل الصناعة وانتهاء قطاعات واسعة تعتمد عليها، مع نشوء مجتمعات الاقتصاد المالي، والخدمات، وغيرها.

اقرأ/ي أيضًا: ساندرز: ترامب استفاد من الغضب ضد مؤسسات الدولة

لم يقدم الخطاب اليميني الشعبوي إجابة اقتصادية بديلة لهؤلاء، بالتأكيد، كما لم تفعل أحزاب اليسار، لكن تلك الأحزاب الشعبوية كما يوضح المفكر الأمريكي جيمس سكوت في حوار سابق مع "ألترا صوت"، ألهمت إجابتهم القومية والعرقية، و"غضبهم الذي كان له خلفيات اقتصادية وعرقية على حد سواء، وهو ما تجسد من خلال تصويتهم لصالح ترامب"، حيث شعروا أنه "لم يعد كافيًا أن تكون أبيض". وبمعنى ما، يمكن المجادلة، يضيف سكوت، "أن فشل الديمقراطيين في تحسين ظروف الطبقة العاملة البيضاء وآفاقها هو أصل هذه الشعبوية".

لا يمكن فهم المجتمع اقتصاديًا باعتباره طبقات فقط. وإنكار هذه الحقيقة، هو ما ساهم حسب آراء كثيرة بأن أحزاب اليسار تفاجأت بأن الشعبوية اليمينية نجحت على أكتاف شرائح واسعة من العمال

لا توجد إشارات واضحة أو كافية إلى أولئك العمال، ممن سيكونون بالتأكيد ضحايا نوع جديد من التحولات، أي ضحايا الحرب على قطاعات النفط والغاز، مع الموجة الجديدة التي يشهدها العالم نحو أشكال طاقة أقل ضررًا على البيئة. لكن ما يبدو واضحًا أن النزعات الراديكالية التي يتبناها من هم مثل كوربين وساندرز، وحلمهم بيوتوبيا "عمالية خضراء"، لا تنطوي على احتواء لتلك الشرائح الواسعة من العمال. ببساطة لأنهم يحاربون في عالم يتخيلونه، أما نتائج معاركهم فتنعكس للأسف على العالم الحقيقي.