19-مارس-2021

مخيم جباليا في ثمانينيات القرن الماضي

من يتسمون بالشجاعة والتضحية ترتسم في وجوههم طرقُ الشهادة. لا تبحث عنهم ولا تسأل عن سلامتهم فكل حارات المخيم والبيارات وشعب الوديان والمغارات ترحل إليهم وتحكي لنا عن واقعهم الذي فاق الخيال وتجاوز المتوقع. وحدهم من نادى بصوت البلد: "هيا للسلاح، هيا للقتال، هيا أيها الأبطال فإن الاستكانة عن مقارعة الاحتلال وصمة عار".

عماد عقل من رعيل القساميين الأوائل في بداية العمل المسلح، في مخيم جباليا شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى

عماد عقل من رعيل القساميين الأوائل في بداية العمل المسلح، في مخيم جباليا، شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى. شارك كغيره من شباب المخيم بالمظاهرات والمسيرات الاحتجاجية والمواجهات مع جنود الاحتلال، لينظم لاحقًا لمجموعات السواعد الرامية التابعة لحركة حماس وهي مجموعات الإسناد التي واكبت الانتفاضة، التي كان من ضمن مهامها إلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة على قوات الاحتلال، وسيارات المستوطنين وملاحقة العملاء، وكتابة الشعارات على الجدران وتوزيع البيانات.

اقرأ/ي أيضًا: مصباح الصوري.. شرارة الانتفاضة الأولى

في آب/أغسطس 1988، مع تصاعد انتفاضة الشعب الفلسطيني شنت قوات الاحتلال الإسرائيلي حملة اعتقالات واسعة طالت مجموعة كبيرة من كوادر وعناصر حركة المقاومة الإسلامية - حماس، تعرض عماد للاعتقال في 23 أيلول/سبتمبر حيث صدر بحقه حكم بالسجن لمدة 18 شهرًا بتهمة الانتماء لحركة حماس، والمشاركة في فعاليات الانتفاضة.

لم تمض فترة قصيرة بعد خروجه من المعتقل ليتم اعتقاله مجددًا إذ وجهت إليه تهمة تجنيد أحد الشباب للعمل مع الحركة، فقضى في المعتقل حينها شهرًا واحدًا.

بعد خروجه من المعتقل التحق بمجموعة الشهداء، والتي كانت من المجموعات الأساسية الأولى التي شكلت كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس، إذ شرعت في العمل بشمال قطاع غزة وكانت مهمتها الرئيسة ملاحقة العملاء والتحقيق معهم وتسجيل اعترافاتهم على أشرطة تسجيل كوثيقة اعتراف وإدانة، وتصفية الخطرين منهم ممن رفضوا دعوات التحذير للكف عن نشاطاتهم الإجرامية بحق شعبهم، بالإضافة للسعي للحصول على السلاح لتنفيذ عمليات عسكرية ضد دوريات وجنود الاحتلال.

في أواخر 1991، اعتقلت قوات الاحتلال اثنين من عناصر المجموعة، وبعد تعرضهم لتحقيق قاسٍ وشديد اضطر أحدهما تحت التعذيب إلى الكشف عن أسماء أعضاء مجموعة الشهداء، فأصبح كل عناصرها مطلوبين لقوات الاحتلال وأجهزة مخابراتها ومن بينهم عماد عقل.

ضاق قطاع غزة بمطاردي مجموعة الشهداء بعد أن ارتفع عددهم وأصبحت عمليات التمشيط العسكري للبيارات ومداهمة المنازل تحدث بشكل يومي، فأصبح ذلك هاجسًا يقض مضجع المطاردين في تلك المساحة الصغيرة، إلى جانب شح السلاح في ذلك الوقت.

شكلت عملية مهاجمة الجنرال يوسي أفني بداية مرحلة جديدة لكتائب القسام، فقد كانت أول عملية يتم التخطيط لها بشكل جيد

رغم تلك الصعوبات لم يثن ذلك المجموعة من مواصلة عملها المقاوم فكثفت من عملياتها ففي 4 أيار/مايو 1992 سجلت المجموعة أحد أهم عملياتها، فقد نصب عماد عقل ومجموعة من رفاقه كمينا لموكب رئيس شرطة الاحتلال في قطاع غزة الجنرال يوسي آفني وأطلق النار علي سيارته عند مفترق الشيخ عجلين، وقد نجا الجنرال يوسي أفني من الموت، بينما أصيب أفراد السيارة الثانية التي كانت ترافقه وتقل عناصر مخابرات الشباك دون أن يتمكنوا من الرد على مصدر النيران ولم تعترف سلطات الاحتلال الإسرائيلية بالعملية رغم قيامها بعملية مداهمة واعتقالات طالت منطقة العملية والمناطق المحيطة بها إلا أن أفراد المجموعة كانوا قد انسحبوا الى قواعدهم بسلام، وفي 11 أيار/مايو كشفت صحيفة معاريف الإسرائيلية النقاب عن تعرض موكب قائد شرطة القطاع لإطلاق نار، لكنها اكتفت بنقل تصريح للجنرال يوسي آفني الذي قال إنه لم يصب بأذى: "سافرت إلى غزة وعندما وصلنا إلى مفترق الشيخ عجلين سمعت دفعات من الرصاص وصرخ السائق: إنهم يطلقون النار علينا فنظرت من النافذة ورأيت شابًا مكشوف الوجه يطلق النار، وركب بعد ذلك سيارة وفر من المكان، ولم نتمكن من إطلاق النار عليه أو مطاردته". وأشارت الصحيفة كذلك بأنه تم العثور على 24 رصاصة فارغة خلال عملية التمشيط التي قامت بها قوات الجيش والشرطة في وقت لاحق.

اقرأ/ي أيضًا: زكي هللو.. رجل الظل

شكلت هذه العملية بداية مرحلة جديدة من عمليات مجموعة الشهداء في كتائب القسام، فقد كانت أول عملية يتم التخطيط لها بشكل جيد، وموجهة بشكل مباشر ضد قادة بجيش الاحتلال، إذ اقتصر عمل المجموعة الأساسي في مطاردة العملاء وردعهم كما شكلت تلك العملية أول تعاون حقيقي مع باقي مجموعات القسام في غزة.

اشتدت عمليات البحث والملاحقة لمطاردي مجموعة الشهداء وزادت عمليات التمشيط للبيارات وعمليات اقتحام المنازل، إذ انحصر عمل المجموعة على نطاق ضيق وعمليات تنقلهم أصبحت صعبة وأمام هذا الوضـع الجديد، وحفاظًا على حياة المطاردين وادخارًا للجهد في اتباع طرق للتخفي وتوفير بيوت آمنة وملاجئ، ارتأت قيادة القسام العمل والتخطيط لخروج مطاردي مجموعة الشهداء من قطاع غزة والانتقال إلى الضفـة حيث تم تشكيل جهاز عسكري لحركة حماس هناك، وحمل أيضًا اسم كتائب الشهيد عز الدين القسام أسوة بما بمثيلها في قطاع غزة. كان ذلك الخيار في انتقال مجموعة الشهداء إلى الضفة خيارًا موفقًا فقد خفف العبء عن قطاع غزة من جهة، وأعطى دفعة قوية للعمل المسلح بالضفة الغربية بعد تشكيل خلايا مسلحة تابعة لكتائب القسام من جهة أخرى.

بعد فترة إقامة لم تستمر طويلًا بالقدس انتهت بمداهمة رجال الشباك أحد المنازل المستأجرة في رام الله واعتقال ثلاثة من أفراد المجموعة عقب عمليات رصد مكثفة من قبل أجهزة المخابرات الإسرائيلية، بعد أن فقدت أثرهم في قطاع غزة، انتقل عماد عقل وما تبقى من أفراد مجموعته إلى مدينة خليل استعدادًا لبدء مرحلة جديدة حيث شهدت المدينة نهاية عهد مجموعة الشهداء إذ طلب الجناح العسكري من عماد عقل تولي مسؤولية العمل العسكري في منطقة الخليل فيما انتقل باقي أفراد المجموعة إلى منطقة نابلس، باشر عماد عقل تنظيم وتدريب مجموعة من الشباب الذين تم اختيارهم من بين صفوف نشطاء الحركة على السلاح ومن ثم الانتقال للعمل الميداني.

في 21 تشرين أول/أكتوبر 1992، هاجم عماد عقل ومجموعته بالأسلحة الرشاشة سيارة عسكرية كانت تسير على طريق الظاهرية باتجاه مدينة الخليل بعد الاقتراب منها، مما أدى إلى إصابة جميع ركابها من بينهم ضابطة بجيش الاحتلال، وبعد 4 أيام من هذه العملية نفّذ عماد بالاشتراك مع اثنين من أفراد مجموعته عمليته العسكرية الثانية في منطقة الخليل والتي وصفها أحد ضباط القيادة في جيش الاحتلال بأنها من أجرأ العمليات التي استهدفت المواقع العسكرية الصهيونية في الضفة، إذ اقترب عماد عقل ورفيقاه من معسكر لجيش الاحتلال القريب من الحرم الإبراهيمي الشريف، وعلى بعد مسافة قصيرة من الجنديين الذين كانا يتوليان الحراسـة وأطلقوا النار عليهم من أسلحتهما الرشاشة دون أن يتمكن جنود الاحتلال من الرد أو تعقبهما عند انسحابهما في السيارة التي كانت تنتظرهم.

اعترف الناطق العسكري الاسرائيلي في وقت لاحق بمقتل ضابط صف في حين أصيب الجندي الثاني بجروح خطيرة.

في 21 تشرين أول/أكتوبر 1992، هاجم عماد عقل ومجموعته بالأسلحة الرشاشة سيارة عسكرية كانت تسير على طريق الظاهرية باتجاه مدينة الخليل

وفي خضم هذا النشاط العسكري الملحوظ الذي طرأ على الضفة، وتحديدًا منطقة الخليل بعد العمليات العسكرية الناجحة التي قادها عماد عقل ومجموعته، نشطت فرق جهاز المخابرات الصهيونية (الشاباك) وعملائها في محاولة للكشف عن من يقف وراء المجموعة التي نفذت تلك العمليات ضد جنود ودوريات الاحتلال، ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل لكن حملة الاعتقالات الواسعة النطاق والتي استهدفت بشكل أساسي القبض على النواة الصلبة لحركة حماس في المدينة اشتد الخناق أكثر فأكثر على مجموعة عماد عقل، وبعد اعتقال أحد مجاهدي كتائب القسام توصل ضباط المخابرات الإسرائيليين الى اكتشاف هوية عناصر المجموعة فاعتقل عدد منهم في حين تمكن عدد آخر من الهرب، أسفرت التحقيقات التي أجراها جهاز الشاباك عن الكشف عن علاقة عماد عقل بمجموعات الخليل ودوره في البناء الهيكلي والتنظيمي للجهاز العسكري لكتائب القسام بالضفة الغربية، ما كثف عمليات البحث عنه ومطاردته مع باقي عناصر المجموعة في الخليل.

اقرأ/ي أيضًا: عزمي الصغير.. شرف العسكرية الفلسطينية

لم تكن هناك خيارات كثيرة مع تزايد حملات المداهمة والبحث، وبعد أن أصبح عماد مطاردًا وعُرف أنه بمدينة الخليل، تم اتخاذ القرار بعودته إلى قطاع غزة وذلك في تشرين الثاني/نوفمبر 1992 إذ تمكن من التنكر واجتياز كافة الحواجز العسكرية ونقاط التفتيش التي أقامها جيش الاحتلال للوصول إلى القطاع.

لم يكن الوضع في قطاع غزة بأفضل حال فقد اشتدت الإجراءات الإسرائيلية لتعقب المطاردين والتضييق عليهم، خاصة مع تزايد العمليات المسلحة التي استهدفت قوات الاحتلال وعملائه.

مع ازدياد الضغط الذي يشكله وجود عشرات المطاردين، وصعوبة إيجاد أماكن آمنة بعد اتباع قوات الاحتلال سياسة قصف وتدمير المنازل التي يلجأ إليها المطاردون، قررت قيادة كتائب الشهيد عز الدين القسام وباقي أجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية تخفيف الضغط بالطلب إلى عدد كبير من المطاردين للاستعداد لمغادرة القطاع وعبور الحدود باتجاه مصر، والانتقال إلى ساحات أخرى لمواصلة العمل المقاوم حيث بدأ المطاردون بالخروج على شكل مجموعات صغيرة، لكن عماد عقل اعتذر عن الخروج وأصر على البقاء إذ اعتبر أن لا مكان له إلا في العمل العسكري الميداني، وقرر مواصلة المعركة إلى النهاية.

لم يدخر عماد عقل الوقت ففور عودته من الخليل مباشرة وعلى مدخل حي الشيخ رضوان في مدينة غزة أطلق النار بشكل مباشر باتجاه جندي إسرائيلي ليرديه قتيلًا.

وفي ديسمبر/ كانون الأول 1992، كان يكمن عند مفرق حي الشجاعية لعدد من جنود الاحتلال ليقتل ثلاثة منهم، بينهم ضابط، لتتواصل عملياته وبعد حوالي شهر استطاع أن يصيب اثنين من الجنود وفي شهر أذار/مارس 1993 كانت رصاصاته تخترق أجساد ثلاثة من جنود الاحتلال في عمليات متفرقة في جباليا وغرب الشيخ رضوان عند منطقة السودانية.

اعتذر عماد عقل عن قبول قرار قيادة كتائب القسام بالخروج، معتبرًا ألا مكان له إلا في العمل العسكري الميداني

اقرأ/ي أيضًا: زياد الحسيني.. الفدائي الذي حكم غزة ليلًا

في 12 أيلول/سبتمبر 1993، وسط أجواء إعلان التوصل لاتفاق سلام بين منظمة التحرير وإسرائيل والذي عرف باتفاق أوسلو انطلق عماد عقل رفقة اثنين من مقاتلي القسام حيث كمنوا لجيب إسرائيلي بمنزل مهجور، قرب مسجد مصعب بن عمير بحي الزيتون، حيث انتظروا مروره ليفتحوا النار عليه من المسافة صفر ويردون الجنود الثلاثة قتلى ويغتنمون أسلحتهم وينسحبون بهدوء، بعد أن تركوا ورقة قرب الجيب تعلن تبنى كتائب القسام للعملية، بقيت جثث الجنود الإسرائيليين ملقاة على الأرض، لأكثر من ثلاث ساعات، شكّلت عملية مسجد مصعب بن عمير ضربة قاسية وموجعة لجيش الاحتلال فقد كانت أول عملية مصورة في تاريخ المقاومة الفلسطينية، ولم تكشفت كتائب القسام عن تفاصيلها إلا بعد مرور عشرين سنة من وقوعها.

يتحدث الأسير المحرر ماهر زقوت، رفيق عماد عقل، وأحد منفذي العملية عن تفاصيل ما جرى: "كان تصوير العملية وبثها على وسائل الإعلام مشهدًا مرعبًا للصهاينة، خاصة أنها المرة الأولى التي يرى فيها العالم مشهد الجنود الصهاينة وهم صرعى غارقين بدمائهم، في الوقت الذي كانت فيه عدسات الكاميرات العالمية تترقب توقيع اتفاقية أوسلو في الولايات المتحدة الأمريكية، نقلت وسائل الإعلام صورة الجنود الصهاينة الصرعى داخل الجيب، حيث ارتمى أحدهم خلف عجلة القيادة فيما كان النصف العلوي لجثة زميله يتدلى من باب الجيب بينما علقت قدماه وبقيتا في الأعلى، وأما الثالث فقد سقط أمام السيارة صريعًا بعد أن حاول الهرب".

استشرس الاحتلال بعد عملية مسجد مصعب بن عمير في البحث عن عماد عقل ولم يدّخر أي جهد للوصول إليه، فقد جنّد وحدة خاصة للبحث عنه بمساعدة عدد من العملاء. وهكذا أصبح عماد عقل المطلوب رقم واحد في قطاع غزة.

شكّلت عملية مسجد مصعب بن عمير ضربة قاسية وموجعة لجيش الاحتلال فقد كانت أول عملية مصورة في تاريخ المقاومة الفلسطينية

في 24 نوفمبر/نشرين الثاني 1993، تواجد عماد عقل في منزل عائلة أم نضال فرحات، أم الشهداء التي عرفت لاحقا باسم خنساء فلسطين، في حي الشجاعية الذي كان يأويه بعد تكثيف حملة مطاردته، قام أحد العملاء – تمت تصفيته لاحقًا- بالتدليل على المكان الذي يتواجد فيه عماد، إذ حاصرت قوات الاحتلال الحي بقرابة 15 سيارة جيب عسكري مع الوحدات الخاصة الذين أطبقوا على المكان كالكماشة وحدث تبادل إطلاق نار بينه وبين قوات الاحتلال استمر لفترة، حيث رفض عماد الاستسلام وانتهى باستشهاده بعد أن أصابت جسده إحدى القذائف المضادة للدروع الذي استخدمها جنود الاحتلال في هجومهم على المنزل، لم يطفئ استشهاد عماد من نار حقد جنود الاحتلال، ويقول شاهد حضر عملية دفنه: "وجدنا في جسمه 70 طلقة وعدة طعنات بالسكاكين".

اقرأ/ي أيضًا: حنا ميخائيل.. تاريخ لا يمضي

رغم أن مسيرة عماد عقل لم تمتد أكثر من ثلاث سنوات، إلا أن حرفتيه وزخامة وأسلوب عملياته العسكرية التي عرفت بعمليات المسافة صفر شكلت فاتحة لم يكن الاحتلال يتوقع أن عمليات إطلاق النار من مسافة قريبة جدًا، فكانت انطلاقة لمرحلة جديدة من العمل العسكري ضد قواته الذي قادها رفاق وتلاميذ عماد عقل وكل من سار على دربه في هذا النهج.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أنيس دولة.. جريمة حرب إسرائيلية

سهيلة أندراوس.. رابعة الأربعة