26-أغسطس-2022
عماد الدين موسى و"كسماء أخيرة"

عماد الدين موسى و"كسماء أخيرة"

في مجموعته الشعرية التي تحمل عنوان "كسماء أخيرة" (دار خطوط وظلال، عمان 2021)، يقودنا الشاعر السوري الكُردي عماد الدين موسى إلى مغامرة أولى في كيفية فهم والتقاط المفردة الموغلة في حسية اللغة، ولا ينفك يدور من حولها بتعليلات ومناجيات- رومانسية حينًا- مؤثرة في سياق التأسيس لقصيدة خاصة، أو قل لغة خاصة به، تتجاوز ما هو مدرك، وما هو بحاجة لأن يخرج من آلية الدوران النثري التي يتقنها الشاعر في مجموعته هذه.

في "كسماء أخيرة" يقودنا الشاعر عماد الدين موسى إلى مغامرة أولى في كيفية فهم والتقاط المفردة الموغلة في حسية اللغة

 

ليس بعيدًا عن هذه المقدمة تبدو "كسماء أخيرة" وكأنها إنذار بضرورة الكشف عن ضرورات إخلاء الأرض لما فيه من عسف وتجن وظلم بشري وهي ضرورات تتيحها السماء الأخيرة بيننا لمن يتأمل بها من تحت أو من بين الأزاهير، كبحثه الدائب كشاعر عن "آخر عصفور" و"آخر خريف"، حتى أن تساؤله عما سيفعله الفجر مع هذه "الأخرويات" مشروعًا بينما "الأزهار تتساقط كسحابة صيف".

يبدو مما سبق أن عماد الدين موسى يدرك أهمية تشاؤمه الدنيوي بوصفه جرس الإنذار الأخير الذي يقرع لينبه أيضًا إلى ما يحصل ويدور على مرأى من عينيه أولًا، هو الباحث في حراك دائم عن فطرة القصيدة الجديدة التي لا تتأخر عن حساسيتها ولا تخذلها، فيبدو كل شيء مرصودًا في قوافل مفرداته الشعرية بمثابة "حداد أبدي" يتلألأ في جسم قصيدة.

يقارب الشاعر أيضًا في عناوين قصائده الممتدة على 128 صفحة كل تلك "البلاد الواقفة على على ربوة أو بركان" ويختزل معاناة القصيدة قبل معاناة شاعرها، لأن الحساسية التي تتشكل فيها تذهب به بعيدًا عن تأويلات أقل ما يقال فيها إنها جامدة، ولكن القصائد هاهنا، والعناوين التي تشكل فصول الكتاب، تمضي بنا إلى سيولة ثرية في المغاور النفسية واللغوية ف"الأصابع حيتان/ وتحلم بمزيد من المياه الراكدة".

من المؤكد أن الشاعر عماد الدين موسى (من مواليد 1981) يقبل الرهان على غرائبية بعض نصوصه، وإلا ما أمكنه أن يعطي لها هذه الموسيقى الداخلية الرديفة للشكل، والتي تتزين بها بين السطور كقوله: "أقف ويداي مسبلتان/ كمن يتهيأ لالتقاط صورة تذكارية لوحدته اللامتناهية...". على أنه يمكن القول إن الشاعر يتقن بدوره تفخيخ المفردات وتثويرها بدلًا من تفجيرها ضمن اطار السائد اللغوي، وهو ينجح في أحايين كثيرة بفعله، وتصبح القصائد إحالات على أحوال كثيرة نعيشها في الواقع، وكأنها السبق الذي يلهث الجميع وراءه في المخيلة، ولكنها من نصيب كل فرد على حدة، وهذه تضاف إلى التجربة الناضجة التي يقدمها لنا الشاعر موسى في مجموعته التي بين أيدينا.

وكما أسلفنا فإن غرائبية بعض الصور تسمح بتكثيف في معدن اللغة ذاتها، وصيرورة هذه اللغة التي تفسح المجال للمزيد من التجريب الذي فتحته قصيدة النثر أمام كتابها، وها هي على أبواب العشرية الثالثة من القرن الجديد تتزين بحساسية أنقى وأصفى، ولها أبعاد جمالية ونفسية، ويمكن الركون إليها والمراهنة عليها بأنها حساسية مكثفة من الصور والاستعارات التي تبحث عن القارئ الحصيف والذكي، الذي يقبل بمتعة الخوض في الأمواج اللغوية "المتلاطمة" التي تنتج عن هذه الحساسية الجسورة والتي صارت تشكل منطق القصيدة العربية الحديثة.

إن قراءة متبصرة وهادئة في مجموعة "كسماء أخيرة"  تتيح للقارئ معاينة أحوال هذه الأرض بعد شيوع الظلم وانكار الانسان لأخيه الانسان

 

"المكان رماد الآخرين/ بينما الذكرى شيء آخر/ أرواحهم".. تأويل في سياق هذا المنطق لما يمكن أن تكون عليه كل الأمكنة التي ستبقى بعد انبلاج السماء الأخيرة من جسم اللغة، ومن جسم القصيدة، وكأن كل ما سيحدث بعد ذلك لن يبتعد عن فيلم سينمائي يحاكي كارثة مهولة، وأن على الناجين الاحتفاظ بمفرداتهم التي تدل على قمصانهم وأرواحهم فـ"الحياة سيرتنا الناقصة/ دفتر قيامة مؤجلة". هاهنا يتيح الشاعر لأخيه القارئ أن ينقض مسلة "الأخرويات" بقليل من الدهشة، وفيها بالطبع معالجة لهشاشة الانسان الجديد أمام كل مايدور حوله من مقتنيات هذا العصر فـ"المدينة خالية تمامًا/ إلا من ذكرى" أو "لكأن الطريق إلى الحقل توجزها نظرة السنونو الشاردة". هاهنا عودة أخرى من بعد عملية الاخلاء التي يمارسها الانسان في النهايات "حيثما لا أرض ولا سماء".

إن قراءة متبصرة وهادئة في مجموعة "كسماء أخيرة"، الإصدار الشعري الرابع للشاعر عماد الدين موسى، تتيح للقارئ معاينة أحوال هذه الأرض بعد شيوع الظلم وانكار الانسان لأخيه الانسان، وجل ما يريده الشعر في هذا العالم الممزق "الأخير" لا يتعدى عدالة اللغة وعدالة النص الشعري قبل أن تدكه مطارق اليأس، وتمنع عنه الضوء والماء والهواء، ففي النصوص التي بين أيدينا حيوات كثيرة لشاعر واحد.