25-سبتمبر-2017

عمران يونس/ سوريا

يتولد الحزن إجمالًا من نقص في الرضى. ونقص الرضى هذا يتأتى من فقدان أحد نموذجين يرى صاحبهما في المفقود تفوقًا جليًا على المتبقي. وعليه فإن أصحاب النموذج الواحد ممن لم يعرفوا طوال حيواتهم الممتدة وجه مقارنة، أو مفارقة، لم يعرفوا الحزن على وجهه المطلق وإن كان يعتريهم سخط محدود حول تفاصيل هامشية هنا وهناك.

دارت هذه الأفكار في محجر رأسه وقد انسابت بضع قطرات دم سوداء إلى حوض المغسلة الأبيض الناصع. راقبها تخلق فوضى ومسارات في الحوض، تتعرج قبل أن تصل فتحة التصريف أخيرًا. نفض بقايا شعر ذقنه والجلد المقشوط عن الشفرة بحافة الحوض. فتح الصنبور إلى منتهاه، انساب الماء أسود بداية، انتظره بضع ثوان حتى صفا لونه وصار أبيض. غسل وجهه بسرعة عدة مرات. رفع رأسه إلى المرآة فوق الحوض، نظر إلى وجهه المنعكس بالأبيض والأسود. كان القلق ما زال يتناهشه فتظهر الخطوط على جبينه أشد تعرجًا، وتتخذ تجاعيد فمه وعينيه وضعية أشد سطوعًا. لولا دقائق التفاصيل هذه لما أمكن تحديد عمره على وجه الدقة. "إنها سياسة الحزب الرشيدة" همس لنفسه في قلق في اللحظة ذاتها التي مد فيها أصابعه المرتعشة ورفع طرف فانيلته القطنية. كانت رقعة اللون ما تزال هناك. بقعة "قمحية" أو هكذا خطر له، أما كيف عرف فلا يدري على وجه الدقة. كانت الرقعة تحوط سرته بإحكام. خيل إليه أنها اتسعت بضعة إنشات منذ ليلة البارحة إلى الصباح.

اللعنة! ما الحل؟

مر خاطره سريعًا على قائمة الحلول التي ارقته منذ ظهور طفرة اللون على جلده. استبعد خيار الطبيب سريعًا. إنه لا يستطيع أن يأتمن على سره هذا حتى أمه أو أباه. تذكر خبرًا كان قد حرره بنفسه عن إخلاص طبيب وشى بصديقته التي ظهرت عليها بثور غريبة اللون. الصديقة التي يبدو أنها كانت تعاني من مرض ما أعدمت على أية حال. لم يتأفف أحد من قرار كهذا فحاجة البلاد لسد الذرائع مفهومة وشرعية.

بحث سريع ومكثف على محرك البحث جوجل هو خيار مستبعد آخر. شبكة الإنترنت مراقبة بلا شك. الشعب الذي يبحث كثيرًا وبعيدًا يتعب ويتعب سادته. ماذا عن التذرع بسفر إلى الخارج حيث عالم الآخرين الملون؟ لا يبدو هذا الخيار حكيمًا أيضًا. حالته تختلف عن حالة صديقه المبعوث الدبلوماسي التي وجدت زوجته لونًا غريبًا على بوكسره الداخلي، وبعد تحقيق وأخذ وعطاء تبين أن اللون انطبع هناك من شفاه إحداهن في البلاد الغريبة التي ابتعث إليها المسكين. وبالرغم من كل ما حصل بعدها تبقى خوازيق الزوجات أهون من خوازيق الدولة. أما صاحبنا فليس مسموحًا له السفر مثله مثل بقية أفراد الشعب السعيد إذا ما استثنينا المبعوثين الدبلوماسيين والعاملين في سلك الدولة من المصطفين، والخاصة من أبناء الحزب المفدى.

استقر أخيرًا على زيارة سريعة للمكتبة المجاورة لشراء اللونين الوحيدين المتوفرين (الأسود والأبيض) وبوصفه كاتب الحزب والمنافح العتيد عن سياساته لن يشك أحد في رغبته بشراء اللونين لإخفاء إحدى علامات الخيانة الفادحة؛ ظهور لون آخر!

الدين دين الحزب وكذا السوق والمنهاج المدرسي ومراكز الصحة. لم يترك الحزب للأفراد الجهلة والمغيبين مجالًا للاختلاف. إن الاتفاق رحمة، لا تسجل المحاكم قضايا استياء أو تعدٍّ، ولا تكاد مراكز الشرطة تفتح أبوابها. لا غش ولا خداع، لا يختلف شخصان على رأي فلا ألوان للأشياء والأحوال إلا أبيض وأسود. أي عبقرية هذه التي حدت بالآباء المؤسسين إلى تحويل البلاد قاطبة إلى الأسود والأبيض واتخاذ ظهور اللون علامة خيانة وتمرد. لقد حقق الحزب ما عجزت عنه أعتى القوى وأشدها. شعر بمشاعر البنوة تكتسحه للحزب المفدى وتمنى لحظتها ان يلمح صورة للزعيم الملهم، أو شعار الحزب ملصقًا على أحد الجدران ليجري إليه يقبله.

لم يعاصر أحدًا من الأجيال الحالية الليلة التي تقلد على إثرها الحزب مسؤولية الحكم. وعليه فلا أحد يذكر ما كانت عليه البلاد قبل الأبيض والأسود. تحولت الألوان مع تعاقب الأجيال إلى مفاهيم مجردة. ما الأحمر؟ لا أحد يعرف. كانت السماء يومًا ما زرقاء، ماذا يعني ذلك؟ لا أحد يدري. ولا يرى أفراد الشعب السعيد غضاضة في ذلك. صاحبنا شخصيًا لم يواجه مشكلة ما مع غياب اللون، اللهم من تسمم غذائي بسيط حين لا يسعفه أنفه من زكام عارض، أو مطر مباغت حين تقرر السماء أن تدلق دلاءها دون نذير ريح، أو حادث بسيط حين يكل شرطي المرور المدرب جيدًا على تقاطعات الطرق. غير هذا لا شيء حقًا..

أما اليوم فالأمور اختلفت قليلًا مع ظهور البقعة القمحية وتوسعها حول السرة.

ما الخيانة التي ارتكبها؟ أي فعل مجرم أتى؟ لا يعلم، لا يدري، لا يتذكر! يمشي إلى مقر صحيفة الحزب شاردًا. يفكر في أصحابه الذين يرتدون الأكمام الطويلة، أو القبات المرتفعة، أو النظارات الشمسية، أو القفازات في غير أماكنها وأحوالها المبررة. أيكونون مثله؟ صرف الفكرة من رأسه وهو يصطدم بإحداهن على رصيف المحطة. رفع رأسه إليها، ابتسمت حتى بان بياض أسنانها ناصعًا. غير أن لون القرمز كان قد علا شفتيها، شعر بذعر الغواية يجتاحه. تلفت حوله، لم يعتر الذعر سواه! لا أحد يرى ما يراه. ماجت أمعاؤه بالقرمزي.

لكن ما القرمزي بحق الجحيم؟ كان يكتسب إضافة إلى الألوان والتدرجات والأطياف معرفة محيطة بخصائصها وحيثياتها، كأنها تدخل وجدانه حاملة بذرة هويتها في ذاتها. "إنها خيانة ممنهجة" سقطت الجملة الى قعر وجدانه كحجر إسمنت مصمت. بهت. كاد يحس بالأصفر يعتلي وجهه.

توالت وحدات الزمن الرمادية في حيادها على صاحبنا الذي كان وضعه يستفحل تباعًا. كانت حواسه تشحذ ذاتها في تجاوب مريع شهي مع التغير الطارئ. صار لا يكسب الأحوال والظروف والأشياء لونًا عجيبًا وحسب، بل صار يشم اللون ويشعر يطعمه على رأس لسانه.

صار يميز الانهيار من الحافة من المنعطف في علاقاته برؤسائه مما يبرق في مرماه من حليبي أو لوزي أو سكري. ويعرف العداء الطارئ من الود المصطنع من طيفي القندس والكهرمان.

صار يستطلع الطرقات وجريان المسافات وأحجار النرد في حظه اليومي مما يشع في خاطره من مارون أو عناب أو كركد. ويرى الخوف كلون الياقوت يتبع صاحبه كخيال. ويعرف حين يفلس واحد أو يدب اليأس في قلبه، أو يدب السرطان في عظامه مما يلتصق في وجهه من أرجواني او خزامي أو بورجوندي.

صار يتتبع الشهوة التي تفوح من الأمكنة والخطيئة حين تكون خفيفة وداكنة ويميز ظلال المهزومين والعدميين والحمقى، وذوي الميول الانتحارية، ويحكم على احتمال العبور والممرات المغلقة والسبق الصحفي الناجح من الخائب، مما يلتصق في عينيه أو خاطره من لون.

لكل حكاية لون ولكل لون قصة وغرق خاص بالتفاصيل. ولج عالم المعاني منها واطلع على بواطن الأمور مما وللعجب يسميه العلم انعكاس الظاهر عن سطوح الأشياء.

أوراق تقلب، أوراق تطوى وأوراق تنتشل من اللهب، هكذا أمضى أيامه التاليات. كان سيدًا، كان شيطانًا، وكان كل شيء يموج أمام عينيه مترعًا بالخيانة، مترعًا بالجمال!

لقد علمته الألوان الأسماء كلها!

في صبيحة يوم الإثنين، العاشر من تشرين الأول، الموافق ليوم ميلاد القائد الملهم، كان جسد صاحبنا يموج بالأزرق جميلًا كما لم يعهده من قبل معلقًا بمروحة السقف، وترقد تحته صحيفة الحزب، وعلى صفحتها الأولى صورة القائد بالأبيض والأسود يعلوها العنوان بالبنط الأزرق العريض.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ثلاثة أخطاء يومية

ضجيج الخيال