20-نوفمبر-2016

الروائي العراقي علي بدر

مثل الجالس إلى مائدة ثريّة بالأطباق، لكنّها غير خاضعة للترتيب المتعارف عليه عربيًا، يسأل الرّاغب في الحديث عن رواية العراقي علي بدر: "من أين أبدأ؟"، ويمكن اعتبار هذا التشويش المرافق لعملية القراءة، واحدًا من الأدلّة على نجاح الكاتب في تسجيل الهدف، إذ ما قيمة هدف لا تثمره المراوغة؟

لم يتخلّف علي بدر عن إمداد القارئ برواية جديدة كلّ سنة

إن هذا المنطق في كتابة الرواية، لا يعني أن الذات الكاتبة ترغب في أن تبقى وحدها في البهو، بتنفير الراغبين في الدخول، بل هي تريد أن تمارس حقها في ضيوف/قرّاء نوعيين لا يمارسون فعل القراءة ليغرقوا في فعل النوم، بل ليسكنَهم الأرقُ ويتقاذفَهم السّؤالُ وتغمرَهم الحيرةُ وتُرْعدَهم الرغبةُ في أن يبحثوا عمّا قرؤوه في واقعهم، لا عن واقعهم فيما قرؤوه.

اقرأ/ي أيضًا: علي بدر.. عن أمة من الأشباح

ما بين سنتي 2001، حيث أصدر "بابا سارتر"، و2011 حيث أصدر "أساتذة الوهم"، لم يتخلّف علي عن إمداد القارئ برواية جديدة كلّ سنة، وكأنه يسابق الزّمن ليقول كلّ الخراب المحيط به، بصفته ينتمي إلى لحظة عراقية وعربية وعالمية، باتت تتنفّس هواء هذا الخراب وتنفثه في الوقت نفسه، وهو ما يصادفه قارئه في متونه، بما يخلق فيه حالاتٍ ومشاعرَ متناقضةً، تجعله صريعَ خيارين متناقضين، الرغبة في الهروب لبشاعة المقام، والرغبة في التوغل لجمال التناول، وما إن يحسم أمرَه، حتى يجد نفسه قد قرأ كلّ ما أخافه.

كانت الحروب والانتفاضات والانزلاقات والكوارث الإنسانية، التي عرفها الإنسان والمكان المعاصران، مادّةَ عشراتِ الروايات لعشرات الروائيين، بعضهم كتب ذلك ليتطهر منها، وبعضهم ليتاجر بها في مسعاه إلى الشهرة والانتشار، وبعضهم ليمارس انتقامًا ما، وبعضهم ليرصد بشاعتها وما ترتب عنها من لحظاتٍ/تجاربَ إنسانيةٍ قاسيةٍ، حتى لا تتكرّر أو تُنسى على الأقل، وهو بهذا لعب دورين في الوقت نفسه، كتب الرواية والتاريخ معًا، لكن بشروط وأدوات الفنّان لا المؤرّخ، وتجربة علي بدر تنتمي إلى هذا الخيار.

إلى وقت قريب، كانت بؤرة اهتمام المشهد الغربي، في مجال ترجمة الآداب العربية، خاصّة الرّواية، في إطار ما عُرف "بسحر الشرق"، تتوجّه إلى الحريم وما يتوفّر عليه من مكبوتات جنسية وطقوسيات ساحرة، لكنّ جيل علي بدر، في أكثر من بلد عربي، استطاع أن يجعل هذه البؤرة في حكم الماضي، بتحويلها إلى "معاناة الشرق"، التي كان هذا الغرب طرفًا فيها.

يتجلّى هذا في روايته "الكافرة"، (دار المتوسّط، 2015)، وهي الفترة التي تلقى فيها العالم عشرات الفيديوهات التي صوّرت كيف تعامل الدواعش مع النساء بصفتهنّ أغراضًا مملوكة، وكيف كان انتهاك أرواحهنّ وأجسادهنّ من مفردات "الجهاد"، عند هذه الكائنات العابرة للإنسانية. وفي الوقت الذي كان فيه العالم مكتفيًا بالمشاهدة والاستنكار، كان علي بدر يكتب قصّة الجسد والنار.

في رواية "الكافرة"، تنتقل ملكية الأرملة إلى غير زوجها "الشهيد"

في البدايات ظهرت فاطمة فتاة عادية، مثل مدينتها النائية، تخدم الإرهابيين وتخضع لأوامرهم. ثمّ بدأت ملامحها، بصفتها أسطورة، تتشكّل بمرور الصّفحات. فقدت أباها في عملية انتحارية ثم زوجها، ليصبح الجرحُ جرحين، جرح الفقد وجرح كونه فجّر نفسه ليحظى بسبعين حورية في الجنّة، ما يعني أنها لم تكن في حياته إلا سريرًا مؤقتًا في العراء. هذا الجرح المضاعف، أسّس لطريق محفوف بالرّغبة في الانتقام.

اقرأ/ي أيضًا: ميثم راضي.. باكورة النّار

من قواعد الغاب لدى "الجماعة"، أن تنتقل ملكية الأرملة إلى غير زوجها "الشهيد"، لكن القواعد التي باتت تحكم فاطمة جعلتها تتمرّد على هذا الواقع، وتخوض مغامرة الهروب إلى بروكسل، هنا علينا ألا نهمل رمزية كونها عاصمة الاتحاد الأوروبي الذي "زوّد" الجماعة بمئات المقاتلين و"المجاهدات النّاكحات"، غير أن طريق الهروب من "الغابة" لم يختلف عن الغابة، إذ اغتصبها المهرّبُ قبل أن تصل إلى "مأمنها".

كان على فاطمة أن تتطهر من ماضيها، بالانتقام منه على أكثر من صعيد، فعمدت إلى خلع نقابها، تحرير الجسد، وتغيير اسمها إلى "صوفي"، تحرير الهوية، والمزاوجة بين وظيفتين: تعمل منظفة في النهار، بصفتها فاطمة اللاجئة الشرقية، وتقصد الحانة ليلًا، بصفتها صوفي الفتاة الغربية، لتخرج منها في كلّ مرّة مصطحبة وسيمًا، إلى أن بلغت سبعين. لقد انتقمت في الدنيا من زوجها الانتحاري الذي ذهب ليفتش عن سبعين حورية في الآخرة.

تسارع الأحداث وكثافة العواطف، خوفًا وندمًا وشوقًا وحلمًا وغربةً وشغفًا وطمعًا وحزنًا وفرحًا، مناخات تجعل القارئ لا ينتبه إلى انتقال الذات الكاتبة من مستوى لغوي إلى آخر، من اللغة الفصيحة إلى اللغة المحكية، فيقع أسيرَ سحر الاثنتين، ذلك أن الأمر لم يكن لعبة، بل انسجامًا مع الحالات النفسية للشخوص.

خاصة مع فاطمة/صوفي، وهي تنتظر عبثًا في المقهى/ تعمل من "الحرام مغارة صغيرة"/ تشاهد شريط فيديو لغزو لبنان عام 1982/ تكره حجرتها بعد أن غيّرت اسمها/ تمشي بين المروج بعد أن خرجت من المستشفى/ تنخرط في تجربة حبّ عميقة، "شعور عارم في روح تتجّه نحو روح أخرى". كيف كانت الرواية ستبدو لو لم تجعل "الكافرة" تتطهر بحب حقيقي؟/ تسأل زوجها المغدور ساخرة: راحت عليك يا رياض، ماذا ستصنع بسبعين امرأة نصفها الأسفل سمكة؟

اقرأ/ي أيضًا:

أنيس الرّافعي.. الكتابة بالعين

صورة للعراق بعد قرن من الاحتلال الأمريكي