04-يناير-2022

من الفيلم (IMDB)

أثار فيلم "لا تنظر إلى الأعلى" (Don’t Look Up) لآدم ماكاي نقاشًا واسعًا توزّع بين نقد إيجابي ونقد سلبي ونقد آخر توليفي، كما أُحيط بوجهات نظر انقسمت بدورها، على غرار القسمة الثنائية التي طرحها الفيلم، بين خياري النظر إلى أعلى والامتناع عنه.

دعوة صنّاع الخوف لغضنا النظر عن خوفنا الأعلى هي توجيه النظر صوب مخاوف أخرى أرادوها مدخلًا جديدًا للتدخل في حياتنا

وفي الوقت الذي يبدو فيه النقاش الحاد، بين محب وكاره للعمل السينمائي، نقاشًا يدور في فلك الانقسام الذي حفل به الفيلم نفسه، شكّل لي الفيلم حجّة لقول خارج الإطار الكلاسيكي لمقاربات النقّاد والسينيفيليين. كما حثني على اعتناق وجهة نظر إضافية مبنية على استفهام: ماذا يوجد في الأعلى؟ أي ما الذي يريد منا الفيلم أن ننظر إليه أو نشيح بنظرنا عنه؟ ما ماهية هذا الشيء الذي تُحشد من أجله كل طاقات مؤسسات النظام العامة والخاصة، لدفعنا إلى غض النظر عن الأعلى وتجعلنا خائفين من إتيانه، عبر التخويف من النظر؟ كما أن الجهود المبذولة من رعاة الخطاب البديل المتمثل بالمؤسسة الأكاديمية، التي مثلها ليوناردو دي كابريو وجينفر لورنس، سعت، بدورها، لتخويفنا، عبر دفعنا الى النظر إلى أعلى.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Don’t Look Up".. نقد العلم وتجريحه

هذا الاستفهام يندرج ضمن الدعوتين الأساسيتين للفيلم، دعوة النظر ودعوة الإشاحة، ويسلّم مع الدعوتين أن ثمة شيء يجب أن نراه أو نغضّ الطرف عنه. إذا ما تخطينا فك ترميز الأعلى، وتخطينا بالتالي فكرة المذنّب المباشرة المستخدمة، يبدو هذا الذي في الأعلى هو نقطة تقاطع الخطابين المطروحين في الفيلم، خطاب المؤسسات الرسمية والخاصة المتداخلة من جهة، وخطاب الاعتراض عليها من جهة ثانية. فوجهة النظر والإشاحة تتماثلان عند مكونات السيستم وفاعلي الاعتراض عليه. ما يوجد في "الأعلى" هو ذلك الخوف المركّب، الخوف الذي تنتجه وترعاه المؤسسات الحكومية وحلفاؤها من مؤسسات أكاديمية وثقافية وميديوية وتكنولوجية. كما أن إنتاج الخوف هنا لا يقتصر على هذه المؤسسات فحسب، بل ينسحب على منتجين جدد يقدمون أنفسهم كمعارضي السيستم ويفكرون من خارج خطابه، ويقدمون أنفسهم بديلًا ينأى بنفسه عن محددات الخطاب السائد الاجتماعية والثقافية. الخطابان ها هنا توحدهما صناعة الخوف وإدارته، فإذا كنا نعلم كيف كان للحضارة الغربية أن تصنع الخوف وتديره وتُخضعه لأوالات الضبط والإدارة، وهذا ما أسهب في تفسيره زيجمونت باومان خلال اشتغاله على "الخوف السائل".

معارضو خطاب هذه السلطة أرادوا في فيلم ماكاي أن يديروا الخوف بطريقتهم دون أن يتنكرّوا له، ناهيك عن عدم نيتهم تفكيكه أصلًا، لقد أرادوا إعادة إنتاجه، إنما بعقلانية أخرى مغايرة لعقلانية السيستم. كيف لفعل الأمر "انظر" أن يصبح فعل أمر لغض النظر في الوقت نفسه؟ الدعوة للنظر إلى خوفنا الأعلى يقابلها دعوة للإشاحة المبطنّة بالنظر، لا يأبه صنّاع الخوف داخل مؤسساتهم لخفض النظر الى الأسفل، طالما أن للخوف أولويات. فدعوتهم لغض النظر عن خوفنا الأعلى هي توجيه النظر صوب مخاوف أخرى أرادوها مدخلًا جديدًا للتدخل في حياتنا. فالمؤسسة السياسية المتمثلة برئاسة الولايات المتحدة كانت تدعو مواطنيها لغض النظر عن الخوف الذي كشفته المؤسسة الأكاديمية واستبداله بالنظر الى خوف آخر تراه أكثر إلحاحًا. تتحصل أولوية الخوف على رأي صنّاعه، الذي يحدد الطريق الأسرع إلى السيطرة على حيوات، تبدو لهم أنها ما زالت خارج مؤسسات صناعة الخوف وآليات الضبط والإكراه التابعة لها، وتهدد مسارات التدخل فيها. وها هم يقلّصون هامش الخطأ في خوارزمياتهم. وبهذه الطريقة يتسع هامش السيطرة عبر الخوف من النظر أو عدمه. فهذه المشاعر تم تأطيرها في برامج وتحولت إلى داتا يستخدمها صناع الخوف في التوجيه وضبط مآلات أمورنا.

يبدو الخوف في فيلم "Don’t Look Up" إله من نوع آخر، ليس من الآلهة التي تتحكم بسيروراتنا ومآلاتها، بل من تلك التي تخضع للتحكم أيضًا

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Spotlight".. السينما في مواجهة خطايا الكنيسة

بدا لي الخوف في الفيلم إلهًا من نوع آخر، ليس من الآلهة التي تتحكم بسيروراتنا ومآلاتها، بل من تلك التي تخضع للتحكم أيضًا. آلهة يديرها صنّاع المحتوى الميديوي. هؤلاء العارفون الحاذقون الذين لا ينفكون يجددون خطاب الخوف وتسعيره بيننا. أجاد الفيلم تصويرهم بدقة، وأصاب خطابهم وفككه، وبيّن لنا يوميات هؤلاء وعلاقاتهم وأدوات إنتاج خطابهم داخل مؤسسة السياسة وداخل مؤسسات الإعلام والجيش والأكاديميا. لا بل، لم يكتف بذلك، وذهب بكاميراته إلى الحامل الاجتماعي ليبيّن لنا أثر صناعة المحتوى عليه. أثر بمرتبة الوطأة الاجتماعية والثقافية نرزح تحتها ونخضع لمعاييرها ولكل أنواع الإقصاء الذي يلفظنا خارج المُجمع عليه، خارج هذا الاتفاق الضمني بين صنّاع الخوف. من غير المسموح لنا ألا نخاف. كل ما هو متاح لديهم أساليب عيش ضمن صور نمطية معدّة سلفًا، تمامًا كصور السينما ومشاهدها.

اقرأ/ي أيضًا:

7 أفلام عن العباقرة

4 أفلام أُخذت من روايات رولد دال