08-ديسمبر-2015

مظاهرة في بيروت دعمًا لقرار عبدالناصر بتأميم قناة السويس 1956 (Getty)

يُحكى أن طائفة الموحدين الدروز اعتادت أن تطلق على بعض زعاماتها لقب "عامود السماء"، وهو يعني أنه إذا قام هذا الشخص تقوم الدنيا وإذا قعد تقعد. هذه المعادلة تنطبق أيضًا على مصر، فحين تقوم مصر يقوم العرب، كل العرب. وحين تقعد، يدخل الجميع سباتًا عميقًا.

منذ غابت مصر بدأ لبنان ينزلق نحو الارتصاف المجنون في حروب الآخرين ونحو الانقسام الدموي داخل محاور النفوذ المتصارعة

لطالما اعتبرها السواد الأعظم، من المحيط إلى الخليج، أم الدنيا وحاضنة العرب، حجر الزاوية وقطب الرحى، نواة الحضارة وقاطرة التقدم والتعاون. يراها عمقه العربي والقومي والتاريخي والثقافي، دونها الشرخ والتمزق، في ضعفها تتهاوى القضية وفي قوتها مفتاح الخلاص وديمومته.

هذا الدور الكبير المنوط بمصر، وهذه الجدلية المستمرة حول الأهمية السياسية والتاريخية والجغرافية وحتى الوجدانية لأي دور مركزي أو هامشي على مستوى المنطقة والعالم، يفتح نقاشًا عميقًا لمقاربة تاريخها الحديث، انطلاقًا من المد الهائل للرئيس جمال عبد الناصر بشخصه وأفكاره ومشروعه وتجربته، مرورًا بالوحدة والنكسة والرحيل والانتصار والسلام والغياب، وصولًا إلى الدكتاتورية والأسلمة والعسكر.

في خضّم هذا النقاش، يبدو لبنان وكأنه النموذج الحيوي الأكثر نضوجًا وأهمية لنقارب عبره ظاهرة التوسع والانفلاش الناعم ومن ثم التقلص والتقوقع والانتقال المتسارع من دولة محورية تحمل ما تيّسر من هموم الشرق وغير الشرق، إلى دولة ريعية ضعيفة تقف في الصفوف الخلفية لتراقب عن بعد مسارًا طويلًا من المخاضات المريعة غير آبهة بمصير أيٍ من حدائقها، خلفية كانت أم أمامية.

ضمن هذا السياق السياسي، عرف لبنان مصر القوية والحريصة على أمنه واستقراره ورسالته الفريدة في الشرق، وعرف أيضًا حجم الكارثة التي أوجدها الغياب والتغييب، فمنذ غابت مصر بدأ لبنان ينزلق نحو الارتصاف المجنون في حروب الآخرين ونحو الانقسام الدموي والعبثي داخل محاور النفوذ المتصارعة. منذ غابت مصر غاب لبنان الجميل وفقد قدرته على الكبح بوجه الانجراف المستمر نحو مزيد من المجهول.

وبعيدًا عن السياسة، بل في صلبها. هناك متلازمة وجدانية هجينة جمعت الشعب اللبناني والمصري رغم التباعد الجغرافي بينهما، ربما يمكننا الحديث عن تكامل موصوف وعن علاقة تاريخية تعود إلى عقود خلت، القاسم المشترك -كان ولا يزال- يتعلق بقماشة متناسقة أنتجت نوعًا من "الكيمياء" عبر تفاعل سلس وغير مسبوق، أقله على مستوى شعوب المنطقة برمتها. فلبنان، مثلًا، يحتل المرتبة الخامسة عشر على قائمة الدول الخارجية المستثمرة في مصر، وهذا ليس تفصيلًا بالنسبة لبلد صغير بحجم لبنان أمام دولة مهولة بحجم مصر. وأيضًا، كان للبنانيين عطاء كبير فى نشر الأدب والفنون الحديثة من أواخر القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين، وكان لهم أيضًا الدور المركزي فى تأسيس وتطوير الصحافة والكتابة وفي صناعة السينما والمسرح. لقد احتضنت مصر كل هذه الطاقات التي لم تُقصّر بإردافها وتاريخها، من ميّ زيادة وروز اليوسف، "هذه الأنامل الجميلة التي ساهمت في عز مصر النسوي" على ما يقول الكاتب سمير عطا الله. مرورًا بالممثل جورج أبيض، أول نقيب للممثلين في مصر، والأديب جرجي زيدان والصحفي جبران تويني (الجد). وصولًا إلى المخرج العالمي يوسف شاهين والفنانة صباح وكوكبة لا تنتهي من الروّاد والمبدعين. 

هي علاقة خاصة واستثنائية تلك التي جمعت مصر ولبنان على المستويات كافة. وهنا، على سبيل المثال لا الحصر، يحضر مقالٌ بديع كتبته الدكتورة هدى عبد الناصر (ابنة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر) تقول في متنه: "بعد العدوان الإسرائيلي عام 1967 واستقالة جمال عبد الناصر في التاسع من يونيو, كان اللبنانيون أول من خرجوا إلى الشوارع يرفضون ذلك القرار" وتضيف: "لن أتحدث عما فعله اللبنانيون في الثامن والعشرين من سبتمبر 1970 ولا عن برقيات التعزية التي تهز المشاعر والتي لا نزال نحتفظ بها, ولا عن مظاهر المحبة التي لن أرى لها مثيلًا ".

لبنان وعبد الناصر ومصر القوية

في خمسينيات القرن المنصرم تراقص الوضع السياسي والأمني في لبنان على وقع التعاظم الهائل لما عُرف بالمد الناصري. انقسم اللبنانيون يومها بين مؤيد لمشروع عبد الناصر في تأميم قناة السويس ومجابهة العدوان الثلاثي وإقامة الجمهورية العربية المتحدة، وبين معارض للجرف ضمن الإطار الوحدوي وصولًا إلى التماهي الكامل مع المشروع الغربي وحلف بغداد المعادي للوحدة العربية وعبد الناصر، هذا الانقسام كاد يودي بلبنان إلى المجهول لا سيّما مع ارتفاع حدة التوتر والاحتقان الطائفي بين غالبية المسلمين المؤيدين لعبد الناصر وبين اليمين المسيحي المؤيد للرئيس كميل شمعون.

عمد الرئيس جمال عبد الناصر حينها إلى الضغط على مناصريه وإلى كبح جماحهم للحد من أي تدهور سياسي أو أمني في لبنان وطالبهم بضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية والداخلية وعدم الانجرار إلى الصدام، خاطبهم بعبارات شهيرة أظهرت حرصه على لبنان وشعبه ولخصّت فهمه العميق للتركيبة اللبنانية الحساسة والمعقدة. وفي تجسيده لهذا الحرص، آثر عبد الناصر عام 1958 أن يلتقي الرئيس الراحل فؤاد شهاب في خيمة على الحدود اللبنانية السورية، نصفها تمامًا في لبنان ونصفها الآخر في سوريا، دخل عبد الناصر من بابها المفتوح على الجهة السورية فيما دخل شهاب من الباب اللبناني وجلسا على طاولة تتوسط الحدود أيضًا وخرجا بالطريقة عينها في دلالة شديدة الرمزية على احترام عبد الناصر المطلق للخصوصية اللبنانية رغم ما كان يتمتع به من شعبية هائلة وزعامة استثنائية.

هذه السياسة اللافتة كانت بمثابة الدور الحاضن الذي لعبته مصر في مقاربة الحالة اللبنانية آنذاك، وهو الدور الذي حال دون انزلاق لبنان برمته نحو المجهول أو الدخول في صراعات "كسر عظم" على المستوى الإقليمي والدولي. كانت الرغبة دائمة بتحييد لبنان وتجنيبه أي خضات سياسية وأمنية قد تساهم في القضاء على استقراره الهشّ وصيغته المميزة، وربما هذا ما جذب البطريرك الماروني بطرس المعوشي إلى مصر وإلى عبد الناصر الذي أحبه، بل وتماهى مع مشروعه القومي والعربي في علاقة قلّما جمعت زعيمًا سنيًا تاريخيًا بقامة عبد الناصر مع بطريرك الموارنة في أنطاكيا وسائر المشرق.

في المقابل، يذهب البعض إلى القول بأن مصر القوية حالها كحال كل الدول الوازنة التي تسعى إلى نشر نفوذها والسيطرة في غير مكان، معتبرين أن مصر عبد الناصر ساهمت بشكل كبير في توتير الوضع اللبناني عبر محاولات جرفه في الإطار الوحدوي، ناهيك عن مشروعها الذي شكل رأس حربة في الاحتراب البارد والملتهب على مستوى المنطقة والعالم، مستحضرين الدور السلبي الذي لعبته مصر في ترسيخ "اتفاق القاهرة" وما نجم عنه من واقع سياسي وعسكري أدخل لبنان برمته في صراع دموي لا علاقة له به من قريب أو بعيد. فيما يعتبر البعض الآخر أن اتفاق القاهرة كان اتفاق الضرورة الذي سعى إليه عبد الناصر بهدف تجنيب اللبنانيين والفلسطينين مزيدًا من الدماء والحروب العبثية لا سيما وأن منظمة التحرير الفلسطينية كانت أمرًا واقعًا آنذاك، وأن المعارك بينها وبين الجيش اللبناني وصلت إلى حدود مقلقة. مشيرين، على سبيل المثال، إلى الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الذي تأخر عن اجتماعه بالوفد اللبناني المفاوض إلى حين إسقاط مروحية تابعة للجيش ليفرض شروطه السياسية من خلال متحرك عسكري يصب النقاط في خانته.

غياب الدور المصري

مع رحيل الرئيس جمال عبد الناصر ووصول نائبه محمد أنور السادات إلى رئاسة مصر عام 1970، تراجع الاهتمام المصري الرسمي بلبنان نتيجة التعقيدات الداخلية والخارجية في الفترة الممتدة من بداية حكمه مرورًا بـــ "حرب أكتوبر" 1973 وصولاً إلى "معاهدة السلام" مع إسرائيل عام 1979 وما نتج عنها من مقاطقة عربية واسعة النطاق.

عام 1981 اغتيل السادات وخلفه الرئيس المخلوع حسني مبارك، ومنذ ذلك الحين وحتى العام 2005 لم يكن لمصر أي دور سياسي فاعل في لبنان الذي كان يعيش حالة من الانفجار الشامل على وقع الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي. هذا الانحسار في الدور المصري لم يقتصر على لبنان بل شمل كامل سياستها الخارجية التي تراجعت إلى أدنى مستوياتها نتيجة خروجها من معادلة الصراع مع إسرائيل وما رافقه من تقلص شبه كامل في نفوذها الناعم على مستوى المنطقة برمتها.

مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 عادت مصر إلى لعب دور خجول وثانوي ضمن المنظومة العربية التي قادتها السعودية، وضمن المنظومة العالمية التي قادها الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، فوقفت إلى جانب قوى الرابع عشر من أذار وسارت في ركب القطيعة السياسية شبه الكونية مع النظام السوري. لكن دورها هذا لم يكن مؤثرًا أو فاعلًا بل هامشيًا ومُلحقًا بالدور السعودي ضمن ما عُرف يومها بــ "محور الاعتدال".

على صعيد آخر، لعبت مصر دورًا هامشيًا في التعاطي مع الأزمة اللبنانية الداخلية التي نشأت إبان حرب تموز من العام 2006 واستمرت حتى "اتفاق الدوحة" عام 2008، فهي لم تقدم أي جديد سوى دعمها المطلق لخيارات قوى الرابع عشر من أذار فيما كان المطلوب أن تلعب دورها الطبيعي في احتضان الجميع ومحاولة الوصول معهم إلى تسوية سياسية مشابهة لتلك التي اتفق عليها المتنازعون بمبادرة من قطر.

محاولات العودة الخجولة

بعد ثورة 25 يناير التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك، وصل الإخوان المسلمون إلى سدة الرئاسة في مصر وحاولوا الدخول على خط اللعبة السياسية في لبنان من خلال بعض الجماعات الإسلامية التي تربطهم بها علاقة وثيقة، ولكن سرعان ما تغير المشهد برمته دون أي تطور يُذكر. سقط الإخوان وانتخب المصريون المشير عبد الفتاح السيسي رئيسًا لجمهورية مصر العربية.

يعيش لبنان أزمة سياسية خانقة في ظل فراغ رئاسي تخطى عامه الأول وعلى وقع احتجاجات مطلبية تاريخية، فيما تلعب مصر دور المتفرج

وصول السيسي، أو "خليفة ناصر" كما يحلو لبعضهم تسميته، أعاد تحريك عجلة الأحزاب الناصرية في لبنان عبر زيارات الذهاب والإياب إلى القاهرة طمعًا بدور جديد لمصر في المعادلة العربية والإقليمية وما قد ينتج عنه من دور محتمل في لبنان. في المقابل، لم يكن الوضع اللبناني في أولويات القيادة المصرية الجديدة لأسباب متعددة ليس أقلها الانشغال التام بمعالجة الأزمات الداخلية المركبّة، إضافة إلى عامل سياسي شديد الأهمية يتعلق باستراتيجية دقيقة في التعامل مع المتحركات العربية لا سيما في الدول التي توليها المملكة العربية السعودية اهتمامًا استثنائيًا. لكن هذا الواقع الحساس لم يمنع عودة خجولة للدور المصري في لبنان انطلاقًا من التنسيق والتعاون مع السعودية، وقد تجسد هذا الدور بشكل ملموس وواضح في حل أزمة "دار الفتوى" وفي وصول المفتي الحالي عبد اللطيف دريان.

اليوم، يعيش لبنان أزمة سياسية خانقة في ظل فراغ رئاسي تخطى عامه الأول وعلى وقع احتجاجات مطلبية غير مسبوقة في تاريخ لبنان الحديث، فيما تلعب مصر دور المتفرج دون القيام بأي مبادرة أو حراك سياسي يساهم في لملمة الوضع وإعادة الأمور إلى نصابها. البعض يرى بأن الانكفاء المصري ناجم عن رغبة مصر بالتزام الحياد الإيجابي في هذه الفترة السياسية الدقيقة التي تمر بها المنطقة، فيما يذهب البعض الآخر إلى الجزم بأن القيادة المصرية الحالية لا تستطيع أن تلعب أي دور سياسي كبير في لبنان أو في المنطقة كونها تخضع بشكل شبه مطلق للإرادة السعودية والخليجية لا سيما في ظل الوضع الاقتصادي الذي يعصف بالبلاد، وبالتالي فإن أي دور سياسي يرفع مصر إلى مصاف صنّاع القرار لا بد وأن يمر أولًا بترتيب البيت الداخلي على كل المستويات، لا سيما على المستوى السياسي والاقتصادي. وهذا أمرٌ مُستبعد، أقله في الوقت الراهن وفي المدى المنظور.

اقرأ/ي أيضًا: 

المعارضة السورية والطريق الشاق إلى مؤتمر أبها

استراتيجية داعش للتجنيد..الشباب أولًا