09-يونيو-2021

الشاعر بول شاوول

ذات مرّة، قال لي الصّديق الشّاعر عباس بيضون، ونحن نتداول في مجموعة بول شاوول "كشهر طويل من العشق"، أنّ جميع الشّعراء الكبار في التاريخ، هم في شكل أو في آخر، وفي جميع اللغات، شعراء معنى... وهي مسألةٌ، إذا عادت اليوم للمناقشة، فإنما تعود بعدما استكملت الحداثة الشعرية بنصوصها ومعانيها وافتراضاتها، دورتها الزمنية الكبيرة في الغرب، وجزءًا من حيويّتها في اللغة العربية، وبدأت في نقد ذاتها نقدًا وَصَل بها، مع ما بعد الحداثة، إلى نبش بعض ما شيّدته من نُصُبٍ وهياكلَ لذاتِها، نبشًا كنبش الغراب.

من ذلك، إضافة الى "المعنى" الذي كان تشظّيه أو غيبوبته وصولًا به إلى "اللامعنى"، كشرط افتراضي من شروط قصيدة النثر، كما رأت سوزان برنار التي تجاوزتها النظرية في ما بعد، بمراحل - وما يُعادُ به من نظر، اليوم - نذكر مسألة التعامل مع التّراث واللغة. كان ماياكوفسكي المستقبلي ومن أوائل المبشرين بالحداثة على سبيل المثال، يسمّي الرومانطيقية "الساق الميتة".

الشاعر اللبناني بول شاوول، من المعنيين باكرًا بالحداثة الشعرية والنقدية، في اللغتين العربية والفرنسية معًا، من خلال نتاجه الشّعري والنّقدي وترجماته المعروفة

وأوجين يونيسكو انقضّ انقضاضًا أعمى باسم الحداثة، على شيخ شعراء فرنسا الكلاسيكيين فيكتور هوغو وألّف فيه سلسلة أهاجٍ سماها "الهوغوليات". لكنّ جاك دريدا، فيلسوف ما بعد الحداثة التفكيكي الكبير، نَسَفَ هذه النظريات نسفًا مبينًا، وذلك بإحياء أركولوجيا الثقافة، وماضيها، برمته، في نصوصه من خلال التفكيك والتأويل.

اقرأ/ي أيضًا: بول شاوول: حديقة الأمس

لقد استند في نظرياته، بالضبط، على ما كانت قد أماتَتْه الحداثة، فأماتها بعمله. وهو عمل نقدي بلا ريب.

الشاعر اللبناني بول شاوول، من المعنيين باكرًا بالحداثة الشعرية والنقدية، في اللغتين العربية والفرنسية معًا، من خلال نتاجه الشّعري والنّقدي وترجماته المعروفة، وهو من كتّاب قصيدة النثر المعدودين، الذين جاؤوا بعد جيل الرّيادة الأولى العربيّة في هذه القصيدة، المتمثّل بمحمد الماغوط وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وتوفيق صايغ، وقد حضنتهم جميعًا، في شكلٍ أساسي، مجلة "شعر".. فيعتبر بول شاوول من الجيل الثاني لهذه القصيدة، في عداد عباس بيضون وسركون بولص ووديع سعادة، وتَلَتْهم أجيال أخرى ما زالت تتْرى وتتوالى حتى اليوم.

"كشهر طويل من العشق"

إذا أردنا استعادة سريعة لهذه الملحمة الشّعرية العاطفيّة إن صحّ التعبير، يمكن القول إنّ الملاحظة الأولى على القسم الأول من القصائد، وصولًا الى القسم المسمى "نساء"، يضاف اليه قصائد "أحوال الجسد"، التي تظهر كأنها استكمال لهذا القسم، هي أنّ بول شاوول فيها هو شاعر معنى، وشاعر لغة، يتداخلان معًا تداخلًا متينًا، كأن لا يمكن الفصل بينهما بأي تشريح نقدي، لأنّ اللفظة أو الجملة هي نفسها المعنى في هذا الصنيع الشعري المحكم. فالديوان بمعظمه، ويستثنى منه القسم الأخير المسمّى "المطر القديم"، هو نشيد عشق طويل، بمحطات ومقاطع، ينطوي على مديح للجسد الأنثوي في مواقع شتّى له، وعلى مسافات كثيرة من الشاعر من الاندماج الكلي به، الى الفراق والاغتراب والشعور بالوحدة معه ومن دونه" لكنه أيضًا أي الديوان ينطوي على مقاطع في قصائد نساء في تهفيت الجَسَد، ومراتٍ لأجساد ذابلة ونسوة متبرّجات متروكات بلا إرواء غليل، ولاطمات خدود، ولنساء المساحيق الباركات على أسرّة باردة في عزلاتهن، فالقصائد ليست مديحًا لكهرباء الأجساد المضيئة والمتفتحة، بحسب، بل هي في جوانب أخرى، تنغمس في عتمات الأجساد، وتلامس بلاداتها، قبحها وارتخاءها.

وهذا المعنى في العشق والجسد، والنفس المتنقّلة هنا وهناك، تارة وثّابة، وطورًا مستوحدة ومستوحشة وعدميّة، تنضح به لغة ذات ضغط خاص وجديد في هذه القصائد لشاوول.

ونعني "بالخاص" أن للغة، في منحوتاتها واستداراتها وكرّها وفرّها، وحشودها وتلصصها، والإلحاح والتفريق، والجناس والطباق، والاشتقاقات وما إلى ذلك من حيل شعرية وتقنيات العبارة... أن لها وزنًا نوعيًا، يسم قصائد العشق في الديوان بكاملها.

وهي مسألة تكشف وتشفّ عن صلة الشاعر بتراثه اللغوي العربي من جهة، ابتداء من القرآن الكريم مرورًا بأبي حيان التوحيدي وصولًا إلى... سليم بركات، وقبله سعيد عقل فأدونيس، كما تكشف وتشفّ عن الخصوصية اللبنانية في هذا العشق الخاص للغة، واستنطاقها المتواصل، في ما يفجّر مكنوناتها الموسيقية، وما يجعلها أصلًا من أصول التجدد الدائم... التجدد المفتوح على الزمان، بسبب حيوية جذور هذه اللغة، وطاقاتها المتضمنة فيها والمخبوءة، والتي يكشف عنها الشعراء الغطاء شاعرًا بعد شاعر، وجيلًا بعد آخر. فمن أمين نخلة الى سعي عقل الى بول شاوول حبل سرّ اللغة العربية يتواصل.

بول شاوول شاعر معنى، وشاعر لغة، يتداخلان معًا تداخلًا متينًا، كأن لا يمكن الفصل بينهما بأي تشريح نقدي

وهي تكاد تظهر كغريزة من فرط ما هي مشرئبة وطاغية، وحاضرة، وعلى رغم أنها تخفي دربة طويلة، وعلى اتصال نصي مع التراث، الا انها مصنوعة بعناية، فهي مستولدة، حديثًا، من تراثها، ولا نقول معها، في نصوص من ذكرنا، أنها مستعارة من لغة أخرى، أو ترجمان فرنسية أو إنجليزية أو إسبانية... بل هي بنت العربية المؤصلة.

اقرأ/ي أيضًا: عباس بيضون في "الحياة تحت الصفر".. قصائد الحَجْر

لنرَ نماذج من ذلك في نصوص شاوول: فهو من الصفحة الأولى يستخدم هذا الاشتقاق الجميل، والجديد: "اجتمار الأصابع"، والمصدر "إدماع"، والفعل "أملست"، وفعل "يستوري". وكثيرًا ما يلجأ الى صيغة "استفعل" التي تعني الطلب في اللغة، "تستنهكك الآيات أو يستعذبك الرجم... يستنهض الجسد وكاماته... تستنهر اللجَّ المفتوحَ كصلوات"، ويُعدّي اللازم "تكاثر"، فيسرّب الصلة الى الآخر فيقول "أكاثركِ" و"تكاثرينني"، كما يلعب لعب منمنمات على الحروف والكلمات، من خلال جناسات كثيرة، يصل ببعضها الى موسيقى وعرة، كقوله"... وسائر ما يتواشج ويتهارش"، فحرفا "الشين" و"الجيم" حرفان يثيران موسيقى حركة بدائية، ويوالي بين "الفائحة" و"الصائحة" في الجناس اللفظي غير الكامل، ويلجأ لإلحاح الحروف في الكلمات، من حيث تردادها وما يولده ذلك من إيحاء موسيقي بالمعنى، على غرار قوله: أخفضكِ زمنًا متعتعًا" و"ملس البرفير وهفهفة الهمس، يستأنس باللذاذة... لصيقة نهنهات مدفنة... أي اعتلاج يهز هزك حتى الأخمص واللعاب"... كأنما لمهمهٍ ان يسترجع بين الحجارة والصبار ما يفضض من ينبوع أو يجهجه من أعضاء" "شمسًا مسلولةً مما يتنهنهها"... إلى آخره.

فلنتوقف قليلًا ولننظر في قدرة اللعب على "الهاء" وما يتشكل من إضافتها الى سواها من أحرف أو إضافة أحرف اليها، من نوطات نغميّة، في هفهفة وهمس ومهمه ويجهجه ويتنهنهها...  لدينا هنا محصّلة محاولة جريئة في اللغة واستدراجها الى موسيقاتها المتنوعة. فليس من السهل استخدام حرف "الهاء" ثلاث مرات متوالية في كلمة واحدة من ستة حروف "نهنهه" ما يشكل نصف الكلمة وبالتالي الكلمة بكاملها.

وهناك صيغ اشتقاقية خاصة وقليلة التداول. يستنهضها شاوول من جمالها، ويدخلها في نسيجه الشعري. كقوله "نهنهات مدّفنة لا مدفونة، و"ثغر بين بهذارك" لا بهذرك، و"خفة حواس أمّلاس النعناع" لا ملاسة النعناع و"هي الضجيعة لبون العدم مهراقة على هاوية"، وله جرأة على الاضافة والصفات كقوله "سبيكة ليل تلمع في ذهبها الماكر... مستسلمات على عَوَرٍ ولا أَذْهَبُ من صليله" وقوله "أي عدمٍ هذا ذائب في هرير الحناجر... يعصف في اختلاجات فينا وفي جعير الأبدية... يعدم ما يعدم في الغرائز المنتصبة" أو "يا قديس اللحا العور..."

ومن التقنيات المستعملة أيضًا الكدس والحشد والإلحاح، كقوله "من فروج مسرورات، محكمات التلظي، والتشهي والخفق والريقان..."، أو "يغالبك تأس وتحسّر وعصر مناديل وكفكفة رمل وغلظة آيات..." ما يجعل التصرف بأحوال الكلام ووجوهه تصرّفًا شاسعًا سمةً من سمات النفس الطويل للقصائد.

القصائد عند بول شاوول على صورة دورانات في الحيرة، وبمثابة وقوع بلا وصول، وعودة للالتباسات العذبة المربكة والممتعة في إرباكاتها

لكن هذا النفس الطويل في القسم الأول من القصائد، لا يلبث ان يتقطع ويختصر في مقاطع "نساء"، ثم يتناثر ويتشظّى في "المطر القديم" وهي حوارات شعرية مع الذات والآخر/ الذات. وتراه يقطع السياقات الطويلة بـ"آه" و"أفّ"، كأنها تتمّة لما لا يقال بالكلمات.

حواريات

في القسم الأخير من المجموعة وهو بعنوان "المطر القديم"، حواريات شعرية يعود فيها شاوول الى ما كان أسسه لأسلوبه الشعري في مجموعاته السابقة، كـ"بوصلة الدم"، و"وجه يسقط ولا يصل" في شكل خاص، و"أيها الطاعن في الموت"، و"موت نرسيس". فهو أسلوب تتسلق فيه القصيدة ذاتها ودرجاتها وتسلم كل كلمة نفسها لأختها فتدور عليها أو تتكئ عليها ثم تنطلق لسواها، وربما تعود لأوّلها مكررة أو متشابهة ومتواشجة، إما على صورة خيط شعري مستقيم غير أفقي، أو على صورة دوران شعري.

اقرأ/ي أيضًا: استعادة "رتق الهواء" لوديع سعادة: إنّه مجرّد لَعِب

هذا الأسلوب القديم غادره شاوول في الأقسام الأولى من "كشهر طويل من العشق"، لكنه عاد اليه في ما يشبه الحنين في المطر القديم. وهنا الشكل الشعري حواري لكنه حديث المستوحد لذاته، أو أمام المرآة، حتى ولو أوحى الشكل بوجود آخر.

-ألأنه مطرٌ قديم؟

-لأنه مطر قديم

-وكما تمسك الورقة من أطرافها

-أو كما أمسك الورقة من ظلالها

وأحيانًا يكون الجواب استعادة نصيّة للسؤال، وأحيانًا يكون هو السؤال فعدّلا بإضافات واستبدالات، ما يجعل القصائد على صورة دورانات في الحيرة، وبمثابة وقوع بلا وصول، وعودة للالتباسات العذبة المربكة والممتعة في إرباكاتها... هنا حيث يسود اللامعنى ويستكمل المعنى بما نسميه نصّ العدم أو حوار المستوحد الحزين مع نفسه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بسام حجار.. حقيقة الألم

مقولة سريعة في القصيدة وأحوالها