07-أغسطس-2018

تنتشر في ألمانيا أصوات معادية جدًا للاجئين (Getty)

تتزايد النقاشات في الفترات الأخيرة عن صعود الخطاب اليميني المناهض للاجئين والهجرة في ألمانيا، وعن تراجع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل نفسها، عن السياسات المنفتحة تجاه اللاجئين التي كانت قد تبنتها منذ ثلاث سنوات. وهو خطاب انتقل إلى أوساط شعبية مع صعود حزب مثل حزب البديل، ورواجه بين عدد من السكان. يسلط هذا المقال المترجم عن مجلة ديرشبيغل الألمانية، الضوء على المخاطر التي ترافق صعود مثل هذا الجدل داخل المجتمع الألماني.


يُزكي المحرضون اليمينيون النقاش حول الهجرة في ألمانيا ويدعمونه بالكراهية، إِذْ فتح اعتزال لاعب المنتخب الوطني الألماني مسعود أوزيل، بسبب المخاوف من العنصرية، بابًا لنقاش ضروري وعاطفي حول التلاحم الاجتماعي في البلاد.

يواجه عديد من الأشخاص وسط المجتمع الألماني صعوبة في فهم اللهجة العدائية التي بدأ النقاش في اتخاذها ضد اللاجئين

تعد غايسنهاوزن، إحدى قرى ولاية بافاريا الألمانية، معقل مؤيدي حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي المحافظ (CSU)، فضلًا عن أنها المكان الذي استقل فيه المتقاعد كارل ماير قطارًا إلى ميونيخ، وهو يكاد ينفجر من الغيظ، وكتب سُبابًا بافاريًا على لافتة، مع رسمة لسفينة مكتوب عليها "لا إنسانية اجتماعية مسيحية"، بالإضافة إلى رسوم ستيك مان مثبتة على جوانبها.

أراد ماير، 67 عامًا، وهو عامل تركيبات تدفئة مُدرب، الاحتجاج في عاصمة الولاية ضد "القومية التي جلبت كثيرًا من الكوارث إلى العالم"، وضد ممثلي الاتحاد الاجتماعي المسيحي CSU، الذي يشعر أنه لم يعد يمثله. يقول ماير: "أفضّل نوعًا آخر من الدول، أشعر بالخجل من أنني بافاري"، بلكنة تكشف حقيقة إقامته في بافاريا، حتى وإن حاول إخفاء أصوله.

مضى أكثر من أسبوع على الاحتجاج، وتطرقت البلاد بسرعة إلى موضوع مختلف، إذ هيمن اعتزال مسعود أوزيل للعب في المنتخب الألماني على العناوين الرئيسية لوسائل الإعلام. ومع ذلك، لم ينس كارل ماير بهذه السرعة الاحتجاج، الذي حضره عشرات الآلاف من الأشخاص؛ لاسيما إنه الاحتجاج الثاني في حياته، فلم يذهب سوى مرة واحدة في السابق، للاحتجاج ضد محطة  للطاقة النووية بالقرب من قريته.

يجد ماير نفسه حاليًا، جالسًا مرة أخرى في غايسنهاوزن ينظر إلى ميونيخ وبرلين بمزيج من الغضب والدهشة؛ إذ قرأ في جريدته المحلية، نمو الاقتصاد بنسبة 2.2% في عام 2017، وانخفاض معدلات البطالة في حزيران/يونيو الماضي، إلى نسبة أقل من أي وقت آخر منذ إعادة توحيد ألمانيا، ومع ذلك لا تزال كل هذه الكراهية موجودة، فهو لا يفهم من أين تأتي.  

اقرأ/ي أيضًا: ما الذي يقوله اعتزال مسعود أوزيل عن العنصرية في ألمانيا؟

في هذه اللحظة، يعمل المحرضون اليمينيون على إعادة صياغة الخطاب في ألمانيا، إذ يريدون "التخلص من" إخوانهم المواطنين في الأناضول (آسيا الصغرى) أو الحث على إحداث "ثورة محافظة"، لكنهم في الوقت ذاته، يواجهون أعضاء اليسار الراديكالي، الذين يعتقدون أننا على وشك سيطرة "الرايخ الرابع"، شأنهم في ذلك شأن عدد قليل من المتظاهرين يوم 22 تموز/ يوليو في ميونيخ.

يواجه عديد من الأشخاص وسط المجتمع الألماني صعوبة في فهم اللهجة العدائية التي بدأ النقاش في اتخاذها، ومن هؤلاء الأشخاص القابعين في وسط المجتمع هناك أناس ينتمون إلى عائلات من المهاجرين ومن غير المهاجرين.

ومن الواضح، اندماج المهاجرين من الجيل الثالث، لكنهم يسألون أنفسهم الآن إذا كان وجودهم  في هذا البلد مرغوبًا فيه حقًا، في حين يشعر الأشخاص الذين يعملون على مساعدة اللاجئين أنهم بحاجة إلى تبرير عملهم، فضلًا عن الأشخاص الذين صوتوا لأحزاب محافظة ولا يحبون الاستقطاب.

ويشعر ممثلون حكوميون رفيعو المستوى بالقلق إزاء التماسك الاجتماعي للبلاد، من بينهم أندرياس فوسكوهلي، رئيس المحكمة الدستورية الفيدرالية، الذي اشتكى من الخطاب "غير المقبول" الذي يستخدمه كبار السياسيين في الاتحاد.

تقول وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير لين، وعضو الاتحاد الديمقراطي المسيحي، الذي يتقاسم السلطة على المستوى الوطني مع حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي: "كانت مهارتنا داخل الحزب الديمقراطي المسيحي قادرة دائمًا على الربط بين الاتجاهات المختلفة، لكننا أخفقنا في تحقيق ذلك  خلال النزاع الذي حدث في الأسابيع القليلة الماضية".

وتشعر أغلبية كبيرة من الألمان بالقلق؛ فوفقًا لأحد الاستطلاعات لمجلة "دير شبيغل" الألمانية، منذ عدة أيام، فإن أكثر من ثلثي الألمان ينتقدون خشونة الجدل السياسي، مع ملاحظة وجود نسبة مماثلة من المبحوثين (عينة الاستطلاع) تميل إلى اليمين في السياسة الألمانية.

نقاش ضروري

يمكن الشعور بحالة من عدم اليقين في كل مكان في المجتمع الألماني، إذ يناقش الآباء والأمهات والأطفال سياسة اللاجئين، وفي المدارس التي تحارب ضد العداء للسامية والعنصرية، وفي مكاتب الحكومة البافارية، حيث يتوجب حاليًا، وضع الصليب باعتباره رمزًا لما يراه المسؤولون الحكوميون "Leitkultur" أو الثقافة التوجيهية. ومع احتدام النقاش حول أوزيل، ازداد الشعور بالخطر مرة أخرى.

وقال لاعب كرة القدم المحترف، في 22 تموز/ يوليو الماضي، "أنا ألمانيٌ عندما نفوز، لكنني أصبح مهاجرًا عندما نخسر"، وفي غضون بضعة أيام، أصبح أوزيل شخصية يمكن للبعض إظهار مشاعرهم من خلالها، فبعضهم يعتبره مليونيرًا فاسدًا، بينما يراه آخرون ضحية للتحيز.

وينظر معظم الألمان إلى أوزيل الآن نظرة ناقدة؛ فوفقًا لاستطلاع أجرته "دير شبيغل"، فإن 58% من المبحوثين (عينة الاستطلاع) يعتقدون أن اللاعب تعرض لمعاملة غير لائقة أو عنصرية، فيما تأسف 27% فقط على اعتزاله اللعب للمنتخب الوطني. ومع ذلك، يعد اعتزال أوزيل مجرد فرصة للنقاش الضروري حول التهميش والتلاحم أو التماسك الاجتماعي.

تعكف ألمانيا على مناقشة ما إذا كانت بلد مَهجر منذ وصول العمال الوافدين الأوائل من تركيا وإيطاليا خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، فبالنظر إلى إصلاح حقوق المواطنة عام 2000، التي سمحت للأطفال المولودين في ألمانيا من أبوين أجنبيين بالحصول على جواز سفر ألماني، يبدو أن الإجابة على هذا السؤال هي "نعم".

يبدو الآن أن الشعور بالإحباط والإحساس بالإهانة الذي وصفها أوزيل في بيان اعتزاله مألوفين لكثير من الأشخاص المنحدرين من عائلات مهاجرة؛ إذ لا يزال أطفال المهاجرين يشعرون بأنهم في وضع غير موات عندما يتعلق الأمر بالمدرسة أو البحث عن شقق أو سوق العمل.

تراجعت المساعدات المقدمة للاجئين في جميع أنحاء البلاد بعد دخول أول موجة ضخمة من اللاجئين إلى ألمانيا خلال صيف 2015

وبالنظر إلى استمرار المعركة حول سياسات اللاجئين، أصبحت ردود أفعال المهاجرين أقوى لا أضعف، لاسيما في ظل عُزلة مزدوجة منتشرة، تتمثل في شعور المهاجرين بالتهميش من الدولة الألمانية؛ كما أن أجزاء من البلاد تعزل نفسها عن المهاجرين.

الميل نحو الاتجاه اليميني!

عمل جيرد توماس في نادي "برلين الدولي" Internationale Berlin لكرة القدم لمدة 15 عامًا، أولًا كمدرب، وبعد ذلك كرئيس مجلس الإدارة، ولم يكن النادي يضع إعلانات على قميص الفريق، وإنما  شعار "لا للعنصرية" فحسب، لاسيما أن النادي يضم أشخاصًا ترجع أصولهم إلى أكثر من 70 بلدًا.

يقول توماس: "تساعد الرياضة على الاندماج، فهي تجمع الناس وتساهم في حل النزاعات"، أو على الأقل، هكذا يجب أن تكون، لكن يرى في محيطه كيفي تتغير الأمور بهدوء، لتصبح اللغة في التعاملات اليومية أكثر صرامة. ويضيف: "ما يحدث في مترو الأنفاق وفي فناء المدرسة، يتجلى أيضًا في الأندية الرياضية، على جميع المستويات".

إن الجناح اليميني في طور تأسيس طرق تفكير ومصطلحات ظلت حتى وقت قريب غير مقبولة علنًا، ففي البرامج الحوارية، يتحدث المسلمون بشكل متزايد عن التهديدات مع مناقشات حول "السياح الذين يلتمسون اللجوء"، و"صناعة منع ومكافحة عملية الترحيل" المُفترضة.

عندما يصرخ محتجو حركة "بيغيدا"، المناهضة للمهاجرين في مدينة دريسدن الألمانية، كما فعلوا في الآونة الأخيرة، قائلين إنه ينبغي ترك اللاجئين "يغرقون"، لم  يعد الأمر يثير أي غضب.

صارت أصوات الوسط (الاتجاه الوسطي) تغرق أيضًا في الخطاب الإعلامي، لدرجة أن المحرضين داخل حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي اعترفوا بهذه المشكلة، فضلًا عن زعمهم، في الوقت الحالي، بالرغبة في تبني  لغة أكثر اعتدالًا في المستقبل.

ففي وقت سابق، كانت عبارة "المواطنون القلقون" تشير بشكل شبه حصري إلى الأشخاص الذين يميلون إلى التحيز ضد الأجانب، وبالتالي يرغبون في إغلاق حدود البلاد في وجه الغرباء، إلا أن هناك أنواعًا أخرى أيضًا من المواطنين المعنيين القلقين من قيم مثل التضامن وأحيانًا "الثقافة الترحيبية"، التي تشير إلى الاستقبال الحار الذي قدمه عديد من الألمان في بادئ الأمر، لمئات الآلاف من اللاجئين الوافدين إلى البلاد خلال عامي 2015 و2016.

"من المؤلم رؤية ترسيخ هذه الشعوبية"

يرى كارل هاينز هوفليش، 62 عامًا، نفسه لأسباب منطقية إلى حد ما، رجلًا من الوسط؛ فهو جزء من مجموعة يدور النقاش حولها باستمرار في الدوائر السياسية في برلين.

يعمل هوفليش، الكاثوليكي، مديرًا لمكتب في هيئة إدارة الغابات، فضلًا عن كونه جَدًّا، وعضوًا في الحزب الديمقراطي المسيحي، ورئيسًا لمجلس الرعية في روكرز، وهي قرية يبلغ عدد سكانها 1,900 نسمة بالقرب من فولدا في ولاية هيس الوسطى.

منذ فترة، يشعر هوفليش بأن العديد من السياسيين لم يعودوا يفكرون في أشخاص مثله عندما يشيرون إلى الطبقة الوسطى، معتقدًا أنهم يتحدثون عن أشخاص آخرين كأولئك الذين يتكلمون بصوت أعلى منه، أو أولئك الذين يشتكون من "طالبي اللجوء" على شبكات التواصل الاجتماعي، معربًا عن استيائه بقوله "من المؤلم أن نرى هذه الشعوبية تترسخ".

اقرأ/ي أيضًا: "ألماني حين أفوز ومهاجر حين أخسر".. أوزيل يعتزل دوليًا بسبب العنصرية

عندما انتقل طالبو اللجوء إلى المنطقة عام 2016، كان هوفليش مستعدًا على الفور للمساعدة، كمسيحي، ولفضوله إزاء أولئك الغرباء أيضًا، فاستمع إلى قصصهم ونظّم مجموعة مساعدات تدعى Rückers Active مع سكان محليين آخرين. ودعت المجموعة اللاجئين إلى مهرجان القرية، فيما دعت السكان المحليين إلى يوم للتعارف، طالبوا فيه اللاجئين بطهي أطباق من بلدانهم الأصلية.

يقول هوفليش إنه يمتلك "كثيرًا من الذكريات الجيدة" عن ذلك الوقت، فقد ساعد شابًا أفغانيًا على شق طريقه عبر البيروقراطية الألمانية ودورات اللغة والتدريب المهني، لكن فيما يتعلق بالسياسة الأوسع نطاقًا في برلين، يرى المدرب السابق أن التركيز لم يعد منصبًا على جعل الاندماج أكثر سهولة بالنسبة للوافدين الجدد، وإنما "بدلاً من ذلك، يتحدثون بشكل حصري عن الجريمة والإساءة وإبعاد الناس"، على حد قوله.

ويلقي هوفليش باللوم على الجناح الشعبوي لحزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) في تصعيد هذا الخطاب الكريه، وإن كان يتهم حزبه (حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي) أيضًا، في كثير من الأحيان، بالسماح لنفسه بالانجراف مع التيار الشعبوي.

ويوضح تأثير ذلك على شرائح أوسع من السكان، مشيرًا إلى إجبار بعض الأشخاص الذين يقدمون المساعدة للاجئين على تبرير أفعالهم عند معارفهم، قائلًا: "إنه أمر مثير للغضب".

تراجعت المساعدات المقدمة للاجئين في جميع أنحاء البلاد بعد دخول أول موجة ضخمة من اللاجئين إلى ألمانيا خلال صيف 2015، إلا أن هذه "الثقافة الترحيبية"، أو هكذا أسماها كثيرون، لم تختف رغم ما يبدو من مناقشات خلال الأسابيع الأخيرة.

فوفقًا لدراسة أجراها مركز "ألينسباخ" لاستطلاعات الرأي لصالح وزارة الأسرة الألمانية، لا يزال خُمس الألمان يتطوعون لمساعدة اللاجئين، إذ يقدم بعضهم التبرعات، في حين يقدم آخرون المساعدة مثل تدريس اللغة الألمانية. ومنذ عام 2015، تطوع نحو 55%، في المجمل، من السكان الذين تزيد أعمارهم عن 16 سنة بشكل أو بآخر، وفقًا لآنسباخ.

الشركات تتمنى حدوث تغيير

تقول أنتجي فون ديويتز: "أشعر بقلق بالغ إزاء المناقشات الساخنة في الأسابيع الأخيرة"، فالناس أصبحوا يركزون أكثر على المخاوف لا الفرص المحتملة التي قد توفرها الهجرة لألمانيا.

وتترأس ديويتز، 45 سنة، شركة Vaude، حيث يعمل 12 لاجئًا من أفغانستان وسوريا ونيجيريا لصالح شركتها، في مدينة تيتنانج بالقرب من بحيرة كونستانس في ولاية بادن فورتمبرغ الجنوبية، في مجال صناعة أكياس الدراجات أو خياطة الخيام في ورشة الإصلاح، فيما يتدرب أحدهم كموظف صناعي.

وفي ذروة أزمة اللاجئين، تقول ديويتز إنها تصرفت بدافع شعورها بالمسؤولية قبل أي شيء، فبعد فترة وجيزة، بحثت الشركة عن موظفين لموقع تصنيع جديد، وبدا العثور على خياطين ولحامين أمرًا صعبًا، وخلال مقابلة مفتوحة بالشركة، زار الشركة نحو 100 لاجئ، كلهم يبحثون عن وظائف.

نظمت الشركة دروسًا في اللغة الألمانية للموظفين الجدد، وساعدتهم على التعامل مع البيروقراطية والبحث عن شقق، وتقول ديويتز إن الاندماج يتطلب جهدًا، فلقد كانت هناك مخاوف بين الموظفين، أما الآن، أصبح القادمون الجدد من أهم موظفي الشركة، على حد قولها.

تتمثل العقبة الوحيدة في رفض طلبات اللجوء لنصف الموظفين البالغ عددهم 12 شخصًا، ما يجعلهم مهددين بالترحيل الآن. وترى ديويتز أن هذا التطور (السياسي) ليس دراما إنسانية فحسب، وإنما إخفاق اقتصادي أيضًا، موضحة أن شركتها ستخسر ما يُقدر بربع مليون يورو إذا فقدت هؤلاء العمال.

أسست ديويتز وممثلو 100 شركة أخرى مبادرة تدعو إلى السماح للمهاجرين بالبقاء في البلاد إذا كان لديهم عقود عمل، حتى أنها كتبت رسالة إلى المستشارة أنجيلا ميركل، كما قالت لحاكم ولاية بادن فورتمبيرغ وينفريد كريتشمان، أثناء زيارته للشركة، "لايمكنك ترحيل زملائنا".

تُدرك رئيسة الشركة أن قوانين اللاجئين لا تهدف لجذب المزيد من القوى العاملة إلى البلاد، وليس كل من يصل إلى ألمانيا يستطيع البقاء، لكن طالما لا توجد سياسة هجرة حقيقية هنا، وفقًا لقولها، يمكن تطبيق لائحة انتقالية كخطوة براغماتية. فوفقًا لديويتز، "تهيمن المخاوف، في الوقت الراهن، على وضع السياسات، وبالتالي لم تعد قادرة على تشكيل الحياة السياسية؛ لأن المخاوف قد تؤدي إلى ركود اقتصادي".

ساهمت رغبة كثير من الألمان في إغلاق البلاد أمام المهاجرين في حقيقة عدم انتهاء ألمانيا حتى الآن من تمرير قانون الهجرة

ويشعر المسؤولون التنفيذيون في الشركات الكبيرة بالقلق من الاتجاه نحو الفكر اليميني، إلا أن قليلين من بينهم، مثل جو كيزر رئيس شركة سيمنز، مستعدون للمشاركة بصراحة في النقاش.

وعندما تحدثت أليس فايدل، رئيسة المجموعة البرلمانية لحزب البديل من أجل ألمانيا، مؤخرًا في البرلمان الفيدرالي عن "الفتيات المحجبات" و"الرجال ذوي السكاكين"، كتب كيزر، ردًا عليها، على موقع تويتر،: "نحن نفضل (الفتيات المحجبات) على (رابطة البنات الألمانيات)، بهذه النزعة القومية، تدمر فايدل سمعة بلدنا حول العالم، التي تعد المصدر الرئيسي لازدهار ألمانيا".

شجع كيزر رؤساء الشركات الأخرى المدرجة في مؤشر داكس للشركات الألمانية الكبرى على تأسيس مبادرة ضد الشعبوية اليمينية، لكنه لم يجد سوى قليل من المؤيدين، وفقًا لما صرح به في حفل استقبال لجمعية ميونيخ لرجال الأعمال في في تموز/يوليو الماضي.

اقرأ/ي أيضًا: عنصرية ضد اللاجئين في أوروبا.. من المهاجرين أيضًا!

وذكر كيف أخبره رئيس إحدى شركات السيارات أنه يخشى بيع عدد أقل من المركبات إذا ما وضع نفسه في مواجهة حزب البديل من أجل ألمانيا. وتعرض كيزر للانتقادات بلا رحمة، بعد نشر تغريدته، وعلى الرغم من تلقيه وعائلته تهديدات على وسائل التواصل الاجتماعي، فإنه يرى أنه لا داعي للبقاء صامتًا إزاء العنصرية.

في ميونيخ، عقد كيزر مقارنات بين الوقت الراهن و الحقبة النازية، قائلًا إنه في ذلك الوقت ظل الكثير من الناس صامتين، حتى أنه شرح كيفية قتل عمه في معسكر اعتقال داخاو؛ لرفضه الانضمام إلى شباب هتلر. وأضاف: "ربما حان الوقت مرة أخرى لعلاج المشكلة في مهدها".

وبالنظر إلى مكانة  كيزر باعتباره رئيس أكبر شركة هندسية متعددة الجنسيات في ألمانيا، فإن إشارة رجل مثله إلى وجود تشابه بين ألمانيا المعاصرة والحقبة النازية، يعطي انطباعًا أن هناك خطأ ما بلا شك.

مستقبل مختلف محتمل

لسنوات، بدت ألمانيا تسير في مسار مختلف، ففي عام 2005، قدم المستشار الألماني، غيرهارد شرودر، قانون الهجرة الذي جعل إدماج المهاجرين مسؤولية الحكومة لأول مرة. وفي ظل حكم المستشارة الألمانية ميركل، تأسس المؤتمر الألماني حول الإسلام، وأزيلت العقبات أمام هجرة العمال المهرة من الدول غير الأوروبية، وفُتح الباب للبقاء في البلاد أمام الشباب المندمج بشكل جيد، ثم لاحقًا،  للأشخاص الذين يحملون تصريح إقامة مقبول.

ويقول الباحث في شؤون الهجرة كلاوس باده، "في خلال ما يقرب من عقد ونصف منذ بداية القرن، تطورت الأمور في مجال سياسة الهجرة والاندماج مقارنة بالعقود الأربعة التي سبقتها".

لقد ساعدت مجموعات مثل DeuKische Generation، وهي منظمة من الشباب ذوي الأصول التركية، الأشخاص الذين ينحدرون من عائلات مهاجرة ليصبحوا أكثر ظهورًا في المجال العام. فلقد أصبح مسعود أوزيل، حفيد أحد العمال الأتراك الوافدين، الذي نشأ في غيلسنكيرشن، وهو أحد لاعبي المنتخب الوطني الألماني والفائز في كأس العالم، وجهًا إعلانيًا معروفًا، حتى أنه حصل على جائزة Bambi لوسائل الإعلام عن "الاندماج" عام 2010.

وتخضع هذه الفكرة عن الشمولية الألمانية، في الوقت الراهن، لمحددات الاتجاه اليميني أكثر من أي وقت مضى، فقبل زيادة أعداد اللاجئين في عام 2015، ركزت سياسات الهجرة بشكل كبير على جذب العمال ذوي المهارات العالية إلى ألمانيا، أما الآن، تجد البلاد نفسها، بشكل مفاجئ، في وضع يضطرها إلى دمج مليون وافد جديد من سوريا وأفغانستان والعراق.

أصبحت الأجواء في ألمانيا مُظلمة؛ إذ تراجعت ميركل، بشكل كامل تقريبًا، عن سياسات اللاجئين الليبرالية، التي وضعتها في صيف 2015

لفترة من الزمن، بدا الأمر كما لو أن ألمانيا قد تجتاز اختبار الإجهاد، و"وتتمكن من إنجاز الأمر" حسبما  قالت ميركل في جملتها الشهيرة في مؤتمر صحفي في آب/أغسطس 2015، لكن، في الحقيقة، لم توضح المستشارة الألمانية أبدًا كيفية تنفيذ ذلك، ما سهل على حزب البديل اختطاف هذه القضية.

نتيجة لذلك، أصبحت الأجواء في ألمانيا مُظلمة؛ إذ تراجعت ميركل، بشكل كامل تقريبًا، عن سياسات اللاجئين الليبرالية، التي وضعتها في صيف 2015، على الرغم من أنها لم تعترف صراحة بذلك.

وساهمت رغبة كثير من الألمان في إغلاق البلاد أمام المهاجرين في عدم انتهاء ألمانيا حتى الآن من تمرير قانون الهجرة الذي يضع قواعد موحدة لدخول المهاجرين الباحثين عن عمل، وأدت أيضًا إلى خلق وضع يتعاون فيه الأوربيون مع الطغاة مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يتسبب نفسه في  دفع الناس للهرب، على المدى المتوسط، ومع دول مثل ليبيا، حيث يتعرض اللاجئون لظروف غير إنسانية.

يشعر المهاجرون اليوم، أكثر من ذي قبل، بالحاجة إلى تبرير هويتهم الألمانية؛ إذ كتبت سوسن شبلي، مسؤولة كبيرة في حكومة مدينة برلين وابنة أحد اللاجئين الفلسطينيين، على حسابها على تويتر، "هل نشعر يومًا بالانتماء؟ شكوكي تزداد يوميًا".

بالنسبة لأعداء الديمقراطية مثل أردوغان، تعد أزمات الهوية فرصة لبث مزيد من الفُرقة بين المجتمعات حتى لو عن بعد، وخاصة بعد اتصال أردوغان باللاعب أوزيل، عقب اعتزاله، ليُثني على موقفه "الوطني والقومي".

بطبيعة الحال، إذا أراد أوزيل أن يؤخذ على محمل الجد كقائد للكفاح ضد التحيز، فقد كان يستطيع أيضًا الإدلاء ببيان إضافي في هذه المرحلة على الأقل، يشير فيه إلى مظاهر الديمقراطية المنقوصة في تركيا، لكنه لم يفعل.

وفي ألمانيا، قد يُنظر إلى اعتزال أوزيل باعتباره نوعًا من الصدمة العلاجية؛ لأنه إذا تسبب بيان أوزيل في إطلاق مناقشة مستدامة حول العنصرية والتماسك الاجتماعي، فسيكون قد أدى خدمة أكبر لألمانيا من إحراز جميع أهدافه كلاعب في المنتخب الوطني.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مهرجان برلين.. آراء سياسية وأفلام عن اللاجئين

اللجوء السوري في الإعلام الغربي.. تباين وتخوف