05-مايو-2022
artificial intelligence

روبوت يتحكم في شاشة البيانات المستقبلية (Getty)

في عصر التطور التكنولوجي المتسارع، نبدو كأننا نقيم في برزخ نحسب أنه يفصلنا عن قسوة الواقع. فصناعات البيوميديكال باتت تنتصر على الأمراض واحدًا تلو الآخر، وصناعة زراعة الأعضاء والأنسجة ودراسة الشبكة الجينية تتيح للبشر إمكانية عيش مديد لم يكن متوفرًا من قبل. كما أن زراعة الأطراف الصناعية باتت تتقاطع وتتماهى مع صناعة الروبوتات. وعيشنا الاجتماعي عبر وسائط كـ"فيسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب" و"تيك توك" توحي لنا كما لو أننا نعيش في فاصل زماني ومكاني كفواصل أفلاطون، أو كأحلام دالامبرت. فالتكنولوجيا بنت أحيازًا نرسم فيها حياتنا وسلوكنا: كيف نأكل ونحب وكيف نعيش. وأعطتنا الوسائط لنتماثل، ونكره، ونفاضل، ولنرى أنفسنا، ونقيِّمها، ونعاين الأنساق التي نريد أن نتماهى معها، ولنخاطب أنفسنا والآخر، ونكره ونحسد. هذه التكنولوجيا تعطينا المدى الحيوي، وتضع في تصرفنا أثاث حيز وطلاء جدرانه لنصنع منه مكانا رديفا نعرّفه بالافتراض.

نحن البشر نتقبل معلومات وإشارات مبهمة وغير دقيقة، ولا نعالجها عبر نظام تلقٍ وقراءة معد سلفًا، كما أننا لا نتعامى إراديًا عن أعراض جانبية لمشاهدة أو حدث

غير أن هذا الحيز الرديف للواقع هو مساحة بُنيت على ميزة الفكر الحدسي البشري. أو بمعنى أدق، تربعت هذه التكنولوجيا على عرش الإدراك التلقائي المفتوح وأقفلت منافذه. فالفكر البشري لا يعمل بموجب الوحدات الرقمية (bits) كما يعمل الكومبيوتر، بل بموجب إعداد وترتيب حدسي وفَرَضي. فنحن البشر نتقبل معلومات وإشارات مبهمة وغير دقيقة، ولا نعالجها عبر نظام تلقٍ وقراءة معد سلفًا، كما أننا لا نتعامى إراديًا عن أعراض جانبية لمشاهدة أو حدث. نحن نفكر في الشيء ككل وليس بالتجزئة، أي أننا نفكر بتركيز وبسهو، بتنبه وبخفة، بجدية وباعتباط في آن معًا، ولا نفهم ما ننتجه عبر إجابات مُعرَّفة سلفًا.

فالعقل البشري يستطيع أن يميز بين ما هو مهم وغير مهم بالنسبة له. أو بمعنى أدق يستطيع أن يتفاعل مع أي ظاهرة يصادفها، دون أن يقوم بجردة تدقيق حسابية لجودة المعلومات التي تلقاها. فنحن لا نعمل عبر برنامج محدد، أي أننا لا نستمع للموسيقى، أو نمارس الجنس أو نقود السيارة، من خلال فحص سيستيمي مكثف ومتسلسل للبيانات التي نتلقاها، أو عبر دراسات منهجية لأخطاء أنظمة الجسم وتقويم الخلل الكامن من طريق إجراء تجارب وإعادة تصحيح واعية للأخطاء (trial and error) وقرنها بتنبؤنا بنجاح مسعانا في العمل الذي نقوم به.

نحن نعي في أفق معرفي يشغله حدسنا أكان تفكيرنا مُركّزاً أم غَفِلا. فمارفن مينسكي يعرف وعينا هذا، بوصفه حقل توجيه وتوقع أو "أطر تعرفية" (Frames)، وتلك "الأطر" هي بمثابة بيانات متصلة تشكل حالة تمثيل نمطية لمواقف وصور ومشاعر نخزنها في ذاكرتنا. وفي أطراف كل "إطار" هناك إرشادات لما يمكن للمرء توقعه في "الإطار" التالي. وبعض هذه الإرشادات تؤشر إلى ما يجب فعله لا إراديًا إذا ما لم يتم تأكيد هذه التوقعات. وفي هذه البنية يتشكل الوعي من خلال إجراءات بحث واختيار تلقائي للمعنى والدلالات ويتم من خلالها تخلٍ عن معطيات وضم أخرى ذات فائدة لبناء سلسلة من "الأطر".

 

غير أن ما هو مفصلي في هذا التعريف العلمي هو أن هذه العملية لا تخضع لمعايير منشأة مسبقا، تُعرِّف سلفًا ما هو مناسب للاختيار. وفي هذا فإن النظام الحدسي هو نظام تلقائي يعمل باستقلال عن أي معانٍ ودلالات مقترحة عليه مسبقًا، ويستطيع تطوير خلاصاته بذاته بطريقة تبَصُّرية تفاعلية. وفي هذا التعريف العلمي نجد أن الفكر هو حقل له نطاقه، كما ما للسمع والنظر، وأن "أطر" مينسكي هي محاولة لتعريف هذا الفكر وآليتها بطريقة علمية عبر عملية تناظر وتشابه وظيفي أنالوجي (analogy). ففهمنا للظواهر هو عملية تشبيه واستعارات استيهامية، غير محددة الأجوبة سلفًا، تتحول إلى مدركات عبر عملية تناظرية مع تجارب سابقة استشبهنا بها وخضناها مسبقًا. أي أن أجسادنا تدرك ما تدركه في محيطها الزماني والمكاني عبر نظام استعارات وتشابه أنالوجي وليس عبر نظام عقلاني منطقي وأجوبة معدة سلفا (Logical). غير أن السؤال هو كيف وصلنا إلى هنا. كيف وصلنا إلى نقطة يسيطر فيها علينا المنطق الحتمي عبر وضع إجاباته أمامنا للاختيار؟

في منتصف الخمسينات من القرن المنصرم بدأ علماء الكومبيوتر مشاريع إنتاج الذكاء الصناعي، آلن نيويل وهيربرت سايمون عملا في مؤسسة راند، وتركزت أبحاثهما على إثبات قدرة الكومبيوتر على القيام بما هو أكثر من مجرد أعمال حسابية معقدة، منطلقين من فرضية مفادها أن التعابير الرمزية الرياضية يمكنها أن تبني تمثيلًا مطابقًا للعالم الذي نعيش فيه، وعليه فإنه بالإمكان بناء نظام يحاكي الذكاء البشري.

هذا الاقتراح مثل عندها افتتاح حقل أبحاث تقني يتمحور حول بناء نموذج لمعالجة المعلومات كما يحلل العقل البشري المنطق. وفي أواخر عام 1960، أنتج تيري وينوغرايد نظامًا برمجيًا يتجاوب مع أوامر تصدر من المستخدم باللغة الإنجليزية لحل مسألة منطقية في عملية بناء تركيب لغوي بسيط من خلال تغير وضعية أحرف مستقلة مرصوفة في كتلة. هذه المشاريع انطلقت من وجوب بناء نظام منطقي يمثل الوعي البشري بشكل رمزي، متكئة على المنطق الكارتيزياني الذي رأى أن كل فهم هو نتيجة عملية تمثيل رمزية.

نحن نعي في أفق معرفي يشغله حدسنا أكان تفكيرنا مُركّزاً أم غَفِلا. فمارفن مينسكي يعرف وعينا هذا، بوصفه حقل توجيه وتوقع أو "أطر تعرفية"

هذا المنحى  لعلماء الكومبيوتر آنذاك استلهم قواعد بحثيه من الفلاسفة العقلانيين، فأخذوا من هوبز مقولته في أن التفكير العقلاني هو عملية حسابية، ومن ديكارت خلاصته أن عملية التمثيل هذه هي عملية عقلية معقدة مبنية على عناصر وأفكار بسيطة وأولية، ودعموا هذا الافتراض بـ"ماندالوجيا" ليبنتز، الذي افترض وجود جوهر فطري يختزن خصائص الكون كلها ومن خلاله يمكن التعبير عن كل أنواع المعرفة، ثم أضافوا إلى هذه المذكورة نظرة كانط لبنية المفاهيم بوصفها قواعد ونظم لربط هذه العناصر والأفكار الفطرية الأولية بعضها ببعض، ثم جيء بمقولة  فريديريك فريج أبو الفلسفة التحليلية الذي وصل الرياضيات باللغة طارحًا إمكانيات وضع قوانين وشروط لتمثيل استنتاجات صحيحة من التوقعات، أي من خلال العبارات اللغوية التي يتم فيها التكهن بخصائص الأشياء ومآلاتها. وكان الافتراض الذي يجمع كل هذه المفاهيم يقوم على التالي: يمكننا أن نضع قواعد للسلوك وردود الفعل يمكن أن تستخدم تلقائيًا من دون حاجة إلى حدس أو تأويل.

من هذا العمق العقلاني الرياضي خاض علماء الكومبيوتر مغامرة توسيع مشروعهم في مسعى يهدف إلى إيجاد الشروط المنطقية الأولية التي تمثل رمزيًا معرفة البداهة البشرية. وبدأوا بإنشاء قاعدة بيانات تسجل ملايين المعلومات المنطقية وتترجمها إلى رموز برمجية، في محاولة للإحاطة بكل ما يمكن أن يمثل حالات العقل المنطقية. إلا أن هذا المنحى باء بالفشل، وذلك لاصطدام هذه المشاريع باستحالة بناء نظام ترميز للواقع ولمعرفة البشر الحدسية فيه. وتلك الحفاوة التي نالتها تلك المشاريع إثر إعلان إمكانية بناء قدرة تفكير بشرية في البرمجيات بدأت بالخفوت أمام الصعوبات الجمة، والتي كان أهمها فشل البرمجيات في بناء تمثيل رمزي لمقترحات بسيطة كجمل صغيرة في قصص الأطفال. وهذا ما كشف عن قصور هذه المشاريع الأولى للبرمجيات في فهم الفطرة البشرية، على نحو ما كتب هوبرت درايفس على مدى أكثر من ثلاثين عامًا من السجال التقني والفلسفي مع مجموعات الباحثين التقنيين المأخوذة بحماستها.

وعليه يمكن القول إن عقود الذكاء الاصطناعي الأولى كانت بهذا المعنى عقودًا ضائعة، في أثنائها فرض على كثير من الناس أن يسلكوا ويفكروا ويستجيبوا كما لو أن أجسامهم لا تتصل بعقولهم.