22-أبريل-2025
ضحايا الاتجار بالبشر في مراكز الاحتيال الرقمية (AP)

ضحايا الاتجار بالبشر في مراكز الاحتيال الرقمية (AP)

لم يكن الشاب الفليبيني يعلم أن عرض العمل المغري الذي تلقّاه عبر الإنترنت سينتهي به في مجمع صناعي تحرسه عصابات مسلحة، حيث أُجبر، تحت التهديد، على تنفيذ عمليات احتيال إلكتروني ضد ضحايا في أنحاء متفرقة من العالم. قصته، التي تتقاطع مع مئات وربما آلاف الحالات المماثلة، لم تعد نادرة في ظلّ تنامي ظاهرة "مراكز الاحتيال الصناعية" في جنوب شرق آسيا.       

في تقرير صادم، حذّرت الأمم المتحدة من أن عصابات الاحتيال الآسيوية، المدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي والتزييف العميق (Deepfake) ، لم تعد تكتفي بنشاطها داخل حدود الإقليم، بل بدأت تمدّ شبكاتها إلى إفريقيا وأميركا اللاتينية، ناشرة نمطًا جديدًا من الجريمة المنظمة العابرة للحدود، يدمج بين الاتجار بالبشر والجريمة الرقمية.

هذه المراكز، التي تُدار كمنشآت إنتاج كاملة، تحوّلت إلى مصانع للابتزاز والاحتيال، تدرّ مليارات الدولارات سنويًا، فيما لا تزال الحكومات والمجتمع الدولي متأخرين بخطوات عن مجابهة هذا الخطر المتصاعد.

حذّرت الأمم المتحدة من أن عصابات الاحتيال الآسيوية، المدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي والتزييف العميق (Deepfake) ، لم تعد تكتفي بنشاطها داخل حدود الإقليم، بل بدأت تمدّ شبكاتها إلى إفريقيا وأميركا اللاتينية

توسّع شبكات الاحتيال الرقمي والجريمة المنظمة

أصدر مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC)، أمس الإثنين، تقريرًا بعنوان: "نقطة التحول: التداعيات العالمية لمراكز الاحتيال، والمصارف السرية، والأسواق الإلكترونية غير المشروعة في جنوب شرق آسيا"، كشف فيه عن توسّع غير مسبوق في نشاطات شبكات الاحتيال الرقمي والجريمة المنظمة في شرق وجنوب شرق آسيا نحو بقاع جديدة من العالم، بفعل تصاعد الضغوط الأمنية على هذه العصابات في مواطن نشاطها الأصلية.

من "مثلث الاحتيال" إلى إمبراطورية عابرة للقارات

في البداية، تركزت مراكز الاحتيال الكبرى في مثلث حدودي يشمل كمبوديا، لاوس وميانمار، حيث وجدت الشبكات الإجرامية بيئة مثالية: فساد إداري، حدود رخوة، وشبكات تجنيد مموهة تحت شعارات العمل عن بُعد. إلا أن هذه العصابات سرعان ما اتجهت إلى التوسع الجغرافي بعد تصاعد الحملات الأمنية المحلية.

شهدت السنوات الأخيرة إنشاء مراكز احتيال صناعية ضخمة، تتنقل من منطقة إلى أخرى عبر الحدود، مستغلة الاتجار بالبشر لإجبار الضحايا على تنفيذ عمليات احتيال رقمي تستهدف أفرادًا من مختلف أنحاء العالم. وتتنوع أساليب هذه العمليات بين خدع "العلاقات العاطفية"، و"الاستثمار السريع"، و"فرص الربح من العملات الرقمية".

ويُقدّر التقرير أن مئات من هذه المراكز تحقق أرباحًا سنوية تصل إلى 40 مليار دولار أميركي، ما يجعلها واحدة من أكبر الصناعات غير القانونية نموًا في العالم.

الامتداد العالمي: من آسيا إلى إفريقيا وأمريكا اللاتينية

مع تصاعد الضغط الأمني على عصابات الاحتيال الآسيوية في منطقة جنوب شرق آسيا، بدأت هذه الشبكات بنقل أنشطتها إلى مناطق أقل رقابة وأضعف من الناحية الأمنية، مثل إفريقيا وأمريكا اللاتينية. ويكشف تقرير أممي حديث عن أدلة دامغة على هذا التوسع الجغرافي، مشيرًا إلى عدة بؤر نشاط.

ففي نيجيريا، نفذت الشرطة مداهمات واسعة أواخر عام 2024 ومطلع 2025، أسفرت عن اعتقال عدد من العناصر الآسيويين المتورطين في احتيالات العملات الرقمية والعلاقات الزائفة عبر الإنترنت. أما في زامبيا وأنغولا، فقد تم اكتشاف خلايا سيبرانية مرتبطة بجماعات آسيوية تدير شبكات لسرقة بيانات الحسابات المصرفية.

وفي البرازيل، تصاعدت وتيرة الاحتيال الإلكتروني، والقمار غير المشروع، وغسيل الأموال، مع وجود دلائل على ارتباط مباشر بشبكات إجرامية آتية من جنوب شرق آسيا. وفي بيرو، تم في أواخر 2023 تحرير أكثر من 40 مواطنة ماليزية من قبضة عصابة تُعرف باسم "التنين الأحمر"، مقرها تايوان، بعد أن تم استغلالهم قسرًا في عمليات احتيال إلكترونية.

ولم تسلم بعض مناطق الشرق الأوسط وجزر المحيط الهادئ من تمدد هذه الظاهرة. حيث سجلت تقارير أممية نشاطًا لمراكز احتيال بقيادة جماعات آسيوية في عدة دول عربية وجزرية، تسعى هذه الشبكات إلى استغلالها كمنصات عبور أو قواعد خلفية لنشاطاتها الإلكترونية.

أدوات جديدة... وخطر الجريمة كخدمة

يحذر التقرير الأممي من دخول عصابات الاحتيال مرحلة جديدة من الاحتراف والهيكلة في عالم الجريمة الرقمية، حيث باتت توظف تقنيات متقدمة بشكل غير مسبوق، ما ينذر بتحوّل الاحتيال الإلكتروني إلى "صناعة قائمة بذاتها".

وتشمل أبرز هذه الأدوات الذكاء الاصطناعي، الذي يُستخدم في توليد نصوص ورسائل احتيالية مقنعة، وتقنيات التزييف العميق  (Deepfake) التي تسمح بإنشاء فيديوهات وصوتيات مزيّفة يصعب تمييزها عن الواقع، إلى جانب البرمجيات الخبيثة (Malware) المصممة لاختراق أجهزة الضحايا وسرقة بياناتهم، وقواعد البيانات المسروقة التي تُستخدم لاستهداف أفراد وشركات بطرق دقيقة وشخصية. كما تعتمد هذه الشبكات على منصات إلكترونية معقدة لغسل الأموال وإخفاء أثر المعاملات المشبوهة.

وتشير الأمم المتحدة إلى أن هذا التطور التكنولوجي الخطير أسهم في نشوء ما يمكن تسميته بـ"صناعة الجريمة كخدمة" (Crime-as-a-Service)، حيث لم تعد المجموعات الإجرامية بحاجة إلى تنفيذ كل مراحل الاحتيال بأنفسها، بل أصبح بإمكان أي جهة – تمتلك التمويل الكافي – أن تستأجر خدمات متكاملة تشمل تنفيذ عمليات الاحتيال، تبييض الأموال، وحتى التجنيد الرقمي واستهداف الضحايا، ما يعزز من صعوبة تتبع هذه الأنشطة والحد منها، ويفرض تحديات أمنية متزايدة أمام السلطات في مختلف أنحاء العالم.

تحذير رسمي: الحكومات غير مستعدة للمواجهة

قال الممثل الإقليمي المؤقت لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) في جنوب شرق آسيا والمحيط الهادئ، بنديكت هوفمان، في تصريح ورد ضمن التقرير الأممي: "نحن أمام مشهد جديد وخطير؛ هناك التقاء بين تسارع هذه العمليات وتوسعها الجغرافي، ما يُنتج مستوى جديدًا من الشراسة… على الحكومات أن تكون مستعدة وتُعزز أدواتها الدفاعية".

وأشار هوفمان إلى أن التطور النوعي في تقنيات وأساليب الاحتيال الإجرامي لم يعد مجرد مسألة محلية يمكن احتواؤها داخل الحدود الوطنية، بل بات يمثل تحديًا عالميًا عابرًا للقارات.

وشدد التقرير على أن مواجهة هذا التهديد المتنامي لا يمكن أن تتم بشكل منفرد من قبل أي دولة، بل تتطلب استجابة دولية متكاملة تجمع بين المقاربات الأمنية، والآليات الاقتصادية، والإصلاحات القانونية العابرة للحدود.

كما دعا التقرير إلى ضرورة التنسيق بين الحكومات والقطاع الخاص، خصوصًا في مجالات التكنولوجيا المالية والمنصات الرقمية، من أجل تتبع الأموال المشبوهة، وصدّ هجمات الاحتيال الإلكترونية قبل وقوعها، وبناء شبكات حماية دولية قادرة على التصدي لصناعة الجريمة الإلكترونية المتطورة.

الاحتيال ليس محليًا بعد اليوم

في ظل ما كشفه التقرير الأممي، تبدو الجريمة الرقمية اليوم في أوج صعودها، متجاوزة الحدود التقليدية للفساد والاحتيال. فبينما تستمر العصابات الآسيوية في تصدير أساليبها، تتسع شبكات التجنيد وغسل الأموال والتحايل الرقمي لتشمل قوى فاعلة من مختلف أنحاء العالم.