10-ديسمبر-2015

أحياء بقصص كثيرة (رمزي حيدر/أ.ف.ب/Getty)

تتشابه الأحياء الفقيرة فيما بينها. تتكرّر المشاهد والوجوه. تتشارك في الملامح الحزينة عينها. تنتشر هذه الأحياء في مناطق وبؤر مخفية قسرًا عن عيون المارة. المرور بأحد هذه الأحياء، لا يتميز عن المرور بحي فقير آخر. قد تختلف طريقة انتشار المنازل والشكل الهندسي لها، وقد تتغير الهيكلية العامة بين حي وآخر. لكن تبقى هوية الأحياء واحدة. هوية تشي بالفقر، الحاجة والبساطة. هوية عالم قائم خلف مدينة ضخمة بضخامة مبانيها.

يحرص مهندسو المدينة وصاحبو الأموال على وجود البنايات العصرية والفخمة على جوانب الطرقات، أو ربما هي رغبة طبيعية مشتركة في نفوس مالكي الأموال. حيث تتقدّم البنايات العالية ذات الطوابق المتصاعدة جوانب الطرقات، لتغلق المشهد الأمامي بطوابقها العالية. وتطوي خلفها سيلًا من الشوارع الفقيرة. وما يزيد المنطقة من طابعها الأرستقراطي هو "اسمها". فعندما تستدل على منطقة "بئر حسن" في بيروت، فإنك تستدل على منطقة لا يقطنها سوى الأغنياء. بالطبع، لأن استئجار شقة سكنية في هذه المنطقة يستوجب دفع مبلغ مالي يتخطىّ العشرين ألف دولار سنويًا، وبطريقة مسبقة. في الوقت الذي يكلّف استئجار غرفة صغيرة في حي المفروشات -حي فرعي فقير في بئر حسن أيضًا- مائتا دولار أمريكي.

يحرص مهندسو المدينة وصاحبو الأموال على وجود البنايات العصرية والفخمة على جوانب الطرقات

الأمر عينه في منطقة الجناح، التي يفصل شارع واحد بين السكان، ويُلصق بكل شارع بها هوية مختلفة. تسود هذه الصورة النمطية في أغلب أحياء المدينة، ويجعلها تنقسم طبقيًا. حي للفقراء، وآخر للأغنياء. شارعٌ يمكنك المرور به، وآخر يحظر عليك اقترابه ولو بالسيارة. هكذا تنقسم المدينة بين شوارعها، كشجرة تتفرّع منها غصون، بعضها يظل أخضر، بينما يضرب اليبس فروعًا أخرى.

الدخول إلى الأحياء العشوائية والتي يُطلق عليها تسمية "أحزمة البؤس" لا مبرر له بالنسبة للأشخاص الذين لا يستعملون أقدامهم، حيث يؤجلون السير بهما إلى الأوقات الصعبة أو في شوارع يخيّل إليهم أنهم يتنزهون في شوارع باريسية. لذا يُفضل هؤلاء التنقل من خلال سياراتهم. صورة بشعة رُسّخت في أذهانهم عن الأحياء الفقيرة. تلك التي لا يسكنها سوى الفقراء أو العمال الأجانب بجنسياتهم العربية والغربية، أو تُصبح تلك الأحياء ملاجئ للهاربين عن القانون. حتى العاملات الأجنبيات اللواتي يخرجن من هذا الحي، يتحولن إلى مشتبه بهن في القيام بأعمال مخلّة بالآداب. ولسنا في معرض إلصاق هذه الصفة بهن أو رفضها.

الدخول إلى الأحياء العشوائية والتي يُطلق عليها تسمية "أحزمة البؤس" لا مبرر له بالنسبة للأشخاص الذين لا يستعملون أقدامهم

تتعدد المشاهد الحياتية داخل الأحياء العشوائية وتتشابه. هنا، يضم شارع واحد كل ما قد تريده ربة المنزل أو القاطن. من الفرن إلى الحدّاد والنجّار ومحل تصليح السيارات والدراجات النارية. محلًا للخضار، اللحم والدجاج. تنزل ربّة المنزل للتسوّق، تحمل أغراضها وتعود أدراجها دون حاجتها إلى ركوب التاكسي. ما حاجتها إلى الخروج للتسوق خارج الحي في الوقت الذي يتوافر فيه كل شيء. السر المشترك بين جميع الأحياء العشوائية، بأنها تنطوي على نفسها. تعرف أن المدينة التي كبرت وتوسّعت لم تتخلّ عنها، لكن صار لكل واحدة منها حياة مختلفة عن الآخر.

حتى الشوارع الداخلية داخل الحي الفلاني، لا ترقى لمستوى الشوارع الخارجية. هي طرقات مرقعة بالأسمنت. قلّما تتكرّم عليها البلديات بتأهيل البنى التحتية. علمًا، أن هذه الشوارع الداخلية تتحوّل إلى "أوتوستراد" تمر خلالها السيارات هربًا من الزحمة واختصارًا للوقت. أحيانًا، الشعور بالخجل من أصحاب الحي الذين لا يملكون غير ممر الطريق هذا ليقدمونه للعابرين واجب. فلا مناظر خلاّبة، أو طرقات مهندسة. لا بيوت ملّونة وملبسّة بالرخام. فقط منازل باطونية تتآكل وتتقلّص بفعل الزمن. وحده الخجل لدى مروري في هذا الحي يتملكني، أحاول تخبئة عيني بنظارتين سوداويتين حتى لا ألتقي بعيون الناس على الطرقات. كما أحاول جاهدة عدم إطلاق بوق سيّارتي لعدم إزعاج العابرين على أقدامهم. أو عدم تأنيب طفل مرّ أمام سيارتي سريعًا، كدت أدهسه لبرهة. لأن هذا الطريق له أو ما يسمى طريقًا.

قد تكون هذه الأحياء المأوى الأخير لساكنيها، وقد تكون محطة استراحة لأناس آخرين. قد تكون أشكالًا مختلفة لأناس مروا وما زالوا يمرون فيها. إلا إنها تكتنز الكثير من الأخبار والقصص. والكثير الكثير من الأحلام.

اقرأ/ي أيضًا:
السكن في بيروت.. طوبى للتشرد!
الخيمة تزاحم المباني في موريتانيا