16-أغسطس-2019

فلاديمير خاخانوف/ روسيا

لكي نتوقّف عن الشعور بالأسى والرثاء لما آل إليه حال الشعر، ينبغي الانتباه إلى أننا طوال الوقت نقرأ شكوى الشعراء من حال فنهم في عصورهم المختلفة. هل نضرب المعري مثالًا؟ الأمر ليس جديدًا، بل لعله أكثر ما يلازم الفن الشعري. وعلينا الانتباه، أيضًا، إلى أنّ الكتابة الشعرية ذات طابع صراعيّ بحدّ ذاتها، فمن جهة لا يمكن القبول بمنع الناس عن التعبير باللغة، ومن جهة أخرى تُشوّش تلك التعبيرات الشخصية، الخارجة من الحاجة إلى القول حاجةَ السكران إليه آخر الليل، على المعنى الفنيّ للشعر.

لكي نتوقّف عن الشعور بالأسى والرثاء لما آل إليه حال الشعر، ينبغي الانتباه إلى أننا طوال الوقت نقرأ شكوى الشعراء من حال فنهم في عصورهم المختلفة

بين هذه الحدّين، ضرورة أن يكتب الناس، وضرورة ألا تعدّ كلُّ كتابة تأخذ شكل القصيدة شعرًا؛ بينهما يلعب الخبثاء والمتطفّلون لعبتهم، فيأتونك بأمثلة عن ذاتية الشعر داعمين إياها بحججٍ من هراء الحداثة عن شعرية المجاني والعادي، مع أننا نعرف أن العادي الذي كتبه شعراء مثل ريتسوس ونيرودا ونزار قباني، على سبيل المثال، لم يعد عاديًا كما هو في الحياة اليومية. كذلك يأتونك بمقولات عن اللاأهمية للالتزام بنوع فنيّ، في الوقت الذين يصرون فيه على تجنيس ما يقدمونه شعرًا.

اقرأ/ي أيضًا: قصيدة النثر في مواجهة التحالفات القديمة

منذ مدة قلت لنفسي: أعرف ألف شاعرة وشاعر لكنني لا أعرف لهم قصيدة. لا أزال عند هذا الرأي على الرغم من ازدياد أعداد الشعراء، وارتفاع معدلات نشر الكتب الشعرية، والسبب البسيط جدًّا هو غياب الفرادة. ثمة كمٌّ لا يقابله نوعٌ يمارس حضورًا يُحيي في ذاكرتنا الشعرية التكسّب، ذلك المعنى الرديء البائد الذي التصق بشعراء المدائح، إذ يُستعاد بطريقة تجعلنا أمام تكسُّبٍ نفسيّ، يرمي أصحابه إلى نيل الرضا المزدوج عن ذواتهم، منهم أولًّا، ومن الآخرين ثانيًّا، أما الفنّ، الجملة والصورة والبناء... إلخ، فلا يحفل بأي اهتمام.

صار الشعراء مشكلة بالنسبة إلى الشعر، إن لم نقل لعنة عليه. ولكي لا يبقى الكلام على عواهنه إليكم الأمثلة الآتية:

  1. الشاعر الذي أشاع أنه بات ضمن قائمة أهم مئة شخصية في المدينة التي انتقل إليها توًّا.
  2. الشاعرة اللطيفة التي كتبتْ لي في الدردشة: "تصبح على قصيدة".
  3. الشاعر الذي بكى على كتف صديقته بحرقةٍ ابن الرومي حين فقد ابنه الأوسط، لأنّ شعره المكتوب بالعامية "عصيٌّ على الترجمة".
  4. الشاعرة التي صرخت من على منبر أوروبيّ: "أطفالنا أبطال في أرحامهم"، ثم نشرت صورةً تحمل فيها كرتونة مساعدات غذائية ذاهبة إلى إدلب.
  5. الشاعر الذي غيّر اسمه لأنه مطارد من مخابرات بلده كي لا يتعرّض للاغتيال في البلد العربي المجاور الذي لجأ إليه، حين طبع مجموعته الشعرية الأولى، باسمه المستعار، وضع صورته الشخصية على الغلاف الأخير.
  6. الشاعر الغرّ الذي وضع اسمه على محرك البحث وحين جاءت النتيجة بظهور اسمه إلى جوار شعراء مثل بدوي الجبل ونزار قباني، اعتبر غوغل أوّلَ المُصدقين لرسالته الشعرية.
  7. الشاعرة التي ورد في تقديمها باللغة الألمانية اسم محمود درويش، ولأنه الشيء الوحيد الذي فهمته من طلاسم المقدمة الألمانية في تلك الأمسية سألت المترجم عن سبب ورود اسم الشاعر الكبير، فقال: "لأنّ محمود درويش كتب عنها قصيدة".
  8. الشاعرة المفوّهة التي قرأت، إثر أحداث 11 أيلول/سبتمبر، قصيدة يقول مطلعها: "زوّجوني بابن لادن"!
  9. الشاعر الذي شارك في أمسية مناسبتها العيد الوطني الفنزويلي في دمشق، وقرأ قصيدةً مدائحية في هوغو تشافيز، يحدثه فيها عن بؤسه وفقره. وقتها همست بأذن صديقي: هذا الرجل يريد الذهاب إلى فنزويلا. وفعلًا لم يُكذّب الشاعر ظنوني إذ قال فورًا: "يا سيد تشافيز... امنحني حق الفيزا!".
  10. الشاعر "الكبير" الذي قال في حوار قديم معه ما يجعلك تشعر أنه يختصر كل الهراء الذي قرأناه بعد عقود من رحيله على صفحات السوشيال ميديا: "إن الكتاب الذي صدر بالفرنسيّة وهو يضم آخر أعمالي، وهي خمسة دواوين، اعتبر النقاد في أوروبا أنه أعظم ديوان شعر أجنبي يترجم إلى لغة أوروبية في القرن العشرين، بل إن إنهم اعتبروا أنّ شأن شعري سيكون شأن شعر عمر الخيام أو جلال الدين الرومي، وسواهما من عظماء الشعراء الذين جاؤوا من الشرق".

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

ثلاثة شعراء ومرثية واحدة

كوليت أبو حسين.. إملاءات الموت