26-نوفمبر-2018

عمر إبراهيم/ سوريا

  • في ذكرى ليلى وعماد

 

نتساقط، جميعًا، على الأرض كما لو أنّنا ورقة أخيرة لشجرة أخيرة سقطت على أرض أخيرة.

يعصرنا الزمان.

يعصرنا المكان.

نخرج من أوكارنا ونبحث عن زاوية صغيرة في مكان ما لا يكون للجوع والذلّ والدم والحرب والموت تحت التعذيب أبجديات يُنطق بها. نجمع الأشلاء

حرفًا

حرفًا

قيدًا

قيدًا

ونُلصقها اسمًا يلاحقنا كلعنةٍ وطنية. هكذا إذًا تتوالى الحروف كغرباء يقفزون من فوق سياج الريح. تهدّمُ الأسماءُ الجدرانَ والقيودُ الكتبَ. هكذا إذن، لا يبقى لنا إلّا لغتنا تحاصرنا كلعنةٍ أبديّة. لا يبقى سوى الصمت. ومن سواه؟ جسدٌ مسجىً على الرصيف ممتدًا أمام البحر. نبحث في هذا البحر عن وجوه أمهاتنا فنرى وجوه الأشياء الأخرى، ونرى التعريفات ونرى رؤوس الجبال ونرى ونرى إلى أن تحاصرنا الأسئلة... فنبكي.

يرنو الميت من حفرته العميقة إلى الشمال. يتردد الصدى. تتراقص الأخيلة. في الشمال لا شيء، فلنجمع أشلاءنا ونرحل بهدوء، ولنبدأ نهارنا بالسؤال.

ابدآ، مثلنا، نهاركَما الحلمَ بالسؤال. عندما يطلع الصبح، حين يناديكما الخريف، حين تحنّان إلى أشياء لا تعرفانها؛ إلى مجهولٍ ما؛ إلى حظٍ مرشدٍ ما، حين ترقى القلوب إلى مصاف النجوم، ابدأا نهاركما يا حبيبيّ بالسؤال، وأيقظا الموتى من سباتهم في هذا الصباح الأصفر.

أيها الحبيبان.

أيها الحبيبان! كيف ينام الحلم؟ من أين أتى ذلك الليل؟ كلّ شيء كان هناك، أمهاتنا والنساء الأُخريات عاريات كما سهل واسع ممتد حتى الظلام، والصباح جميل. وأنتما يا حبيبيّ أجمل من لحلاح القدس فخذاني بعيدًا عن الدموع وعن هذه الغرفة. أنتما يا حبيبيّ أجمل من البرتقال. من البحر تمتدان إلى جسدي لا نهاية لكما. لا نهاية لكما:

ماء عذب ومجهول جميل الطلعة.

محبّةٌ.

قُبَل.

مواسم الحصاد.

دفاتر الطلاب الذاهبين إلى المدارس.

رائحة الأرض.

زهر القرنفل.

حمامات الجامع الأموي وبلاطات أرصفة دمشق.

الأمنيات.

لا نهاية لكما. لا نهاية.

كالحلم القافز من خيوط ضوء القمر غُزلتما. من ريح تلفح وجه غريب في مدينة غريبة شُكلتما. من نار الأكراد في ليلة النوروز جُبلتما. من مطر خفيف يتهادى فوق أكتاف عاشقين يمشيان في شارع بعيد تكونت ذاكرتكما. بدأتما بالهمس وبه انتهيتما. تحملان حزن شعب كامل. تحملان حزن الأرض وتسكنان في قلبي. ما الذي تنتظرانه في الصباح أكثر من إشراقة الصبح تبتسم لكما؟

لماذا

رحلتما

يا

أولاد

الأساطير

قبل

أن

تنتهي

هذي

القصيدة؟

ربما… ربما تغرينا الأشياءُ بأشياءٍ أُخرى، كأن نفتن بالحرب في زمن السلم، كأن نفكر بحقول القمح والحنطة الواسعة ونحن نتلقى أخبار من قضوا تحت التعذيب في سجون بلادنا الحزينة، كأن أفكر بكما وأنا بعيد في الشمال البعيد.

هكذا إذًا لا نعبرُ الجسر إلا حفاة عراة، نبتعد عن البلاد الحزينة ولا شيء يكسو أجسادنا. نغني أناشيد تبدأ من الحنجرة ولا تنتهي فيها؛ صداها يرحل بعيدًا ليقض مضاجع العوالم الأخرى.

هكذا إذًا، كنّا نحلم، كنّا نحلمُ بغدٍ، كما طائر بلا جناح يحاول الطيران. لماذا لم يتسع ترابكما لي؟ تمر على ذاكرتي صورٌ لترابٍ منقوصٍ من الشاهدة. لا أسماء هنا لمن سقطوا. جموع من الأجساد ممتدة أمامي كسهل من الخزامى ترتبط رائحتها بثيابي لِتربطني إلى بلادٍ مشدودة إلى قلبي بحبل مشيمة لا ينقطع.

هكذا إذًا، النهار مشابهٌ لنهارٍ سبقه. الزمان نائمٌ والقافلة تسير على هوامش الكلام وتكون مدادًا له. تأتي الصحوة فتُستعاد الذاكرة. ليلة واحدة فقط وأشفى من رُهاب الاغتراب. لا مكان لجرذ إضافي فوق فراشي.

عبثًا أحاول الخروج من مستنقع الدم الصاعد نحو قمة جبال الغيم. أحاول العثور على صدىً لأصواتنا الأولى فأُصاب بالجنون.

وكان النهارُ يشبه النهارَ الذي سبقه، وكان ضباب. ومشينا. كدنا، في صباحات الخريف، أن نسمع صوت القاتل في تلك العتمة أو ربما كانت صرخاتنا.

يا أحبائي.. يا أحبائي

أحتاج إلى سرب من الملائكة يحمل قلبي المثقل بالحزن.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 

يقظة عسيرة

مَن يحمل الرصاصَ في يديه يصيرُ كريشةٍ