10-يونيو-2018

عبد اللطيف اللعبي

عزيزي عبد اللطيف،

عيناك، وهما تقرآن ما أكتب، غصن من الزيتون في غربة..

ما زلت أتذكر نسيم ذلك الصباح البارد من أيام الصيف بعدما همت العائلة بالرحيل صوب الدار البيضاء بحثًا عن كسرة خبز، انسللت كالريشة بهدوء عبر الدروب الضيقة الزرقاء مخافة من أعين الجيران الجارحة. غصة خانقة كنت أحسها تتصاعد الى الحلق لتزرع في العين دمعًا، وأنا أحمل في جسدي هسيس مدينة مستيقظة من العدم ونازحة من أقصى الريح، بوجعها السرمدي وبغنجها الغجري... وبعضًا من دواوين لك ولعبد الله زريقة وأمجد ناصر وقاسم حداد وشيء ما خفي في دواخلي يئن. كانت السماء جد زرقاء في ذلك الصباح الرهيب، والحافلة تمخر عباب الطريق المنهدة ودقات قلبي تسبق يدي إلى المحفظة وكأنها تبحث عن كنز. صرت أقرأك في صمت دون أن أحفل بالوجوه البهلوانية التي كانت تحيط بي، ومع كل بيت شعري أقرأه كان طيفك يتراءى لي في السماء مبتسمًا.

 من يتذكر اليوم محمد عابد الجابري بابتسامته العريضة؟ وعبد الله العروي بنظراته العميقة؟

لا شيء يمنعني اليوم صديقي من الحكي إليك وبلغة شفافة مباشرة، لا تداهن أحدًا ولا تبتغي لنفسها شيئًا أو طمعًا في شهرة مصطنعة أو ضوء ساطع يكشف عريي في الأقبية، إنه مجرد كلام و بوح صادق عن بقايا الخيبة والعهر فينا عن ما آل إليه هذا المغرب اللاثقافي منذ التسعينيات الى اليوم.

اقرأ/ي أيضًا: 20 رسالة حب إلكترونية

لقد أثارني حقيقة بشدة ما كتبته في كتابك المتوهج والصريح "un autre Maroc" لقد جعلتني أحلم بعد أن فقدت القدرة على الحلم، كان بإمكاني هنا أن أكتب مقالة نقدية عن الكتاب، لكني آثرت أن أكتب لك بلغة البوح والحنين الصادق عن ما يعتصر في قلبي منذ سنوات.. عن ما آلت إليه جامعاتنا المغربية اليوم، التي باتت تشي بنوع من القحط الثقافي، إذ أصبحت تعيش اليوم على ماضي أمجادها ممن أتعبهم البحث وأفقدهم المرض القدرة على الكتابة والتنظير، فعانوا لوحدهم في صمت رهيب.

من يتذكر اليوم محمد عابد الجابري بابتسامته العريضة؟ وعبد الله العروي بنظراته العميقة؟ وعبد الكبير الخطيبي وطه عبد الرحمن وعبد الفتاح كيليطو ومحمد سبيلا وعبد اللطيف اللعبي وعبد الله زريقة  وغيرهم؟ كل هؤلاء في نظري أسماء لامعة طبعت الثقافة المغربية، انطلاقًا مما كتبوه من نصوص وبحوث ودراسات نظرية وازنة خرجت من رحم الجامعة لتخترق جسد الثقافة المغربية ومنها إلى العربية، انتهاء بالعالمية، بل وما زالت تحفر مجراها عميقًا في التربة الغربية باحثة لنفسها عن قراء جدد، إضافة إلى حجم البحوث والدراسات التي تكتب اليوم عنكم، سواء داخل البلاد العربية أو خارجها، وهو الأمر الذي ينم عن نجاعتكم مما خلقتموه من دينامية ثقافية داخل الجامعة المغربية بنقاشاتكم وآرائكم المحمومة إلى الدرجة التي جعلت النظام المخزنيّ يتدخل دومًا لإطفاء الحرائق التي كنتم تنشبونها ببراءة بين الطوائف الأيديولوجية التي لم يكن سببها المال طبعًا، بل اختلاف الطروحات الفكرية والأيديولوجية، خاصة بين الطوائف اليمينية الرجعية وبين حركات التحرر التي كنتم تتبنونها كيساريين داخل الجامعة تحت لواء الاتحاد الوطني لطلبة المغرب.

أين نحن اليوم من هذا الزخم الفكري الذي دشنتموه داخل الجامعة المغربية؟ وما لعبتموه من أدوار طلائعية في تأسيس الثقافة المغربية المعاصرة المنسلة آنذاك من ربقة المستعمر لتسقط في أحضان ثقافة تقليدية رجعية ما زلنا نعاني من ويلاتها الى اليوم؟

*

عزيزي عبد اللطيف،

لا عيب في أن نحلم، لكن الحلم جميل وعسير..

أليس صحيحًا أن المثقف الجامعي بما كان يمثله آنذاك من سلط معرفية/ رمزية لم يكن معنيًا بالتدريس والتلقين فقط، بل كان همه هو البحث العلمي وخلق نقاشات ساخنة داخل الجامعة واجتراح مشاريع أدبية وفكرية وأنثروبولوجية وسوسيولوجية، تبناها جيل السبعينيات بقوة وسوغ لها وكتب عنها وعرّف بها مغربًا ومشرقًا كفريد الزاهي ومحمد بنيس وموليم العروسي ومحمد برادة ونور الدين أفاية ومحمد البكري وعبد الله راجع وغيرهم، لما تبدى فيها من جرأة وتنوع وخلخلة للمألوف الذي طبعته الثقافة التقليدية.

المثقف الجامعي أو ما أسميه بالمثقف الببغاء، هو عبء اليوم على الثقافة المغربية المعاصرة بتاريخها الجريح

ما يحدث اليوم داخل الجامعة المغربية هو إجهاض كلي وعن وعي لما كتبتموه من مشاريع شعرية وفكرية التي دشنتموها بألم، بمجرد أن يموت الشخص حتى تقام عليه الولائم التافهة بما يدعيه أصحابها من ثقافة، وفي المساء الحزين من نفس اليوم يصير فلان كأنه لم يكن يومًا بتعبير محمود درويش، فيصير مشروعه الفكري محض خرافة وهباء.

اقرأ/ي أيضًا: رسالة إلى سلطانة

عبد الله العروي، عبد الكبير الخطيبي، محمد سبيلا على سبيل المثال لا الحصر، كل هؤلاء مفكرون فطاحل نمت مشاريعهم وترعرعت داخل الجامعة وإن اختلفنا معهم في طروحاتهم، بل وتتلمذت على أياديهم كوكبة من الأسماء الطليعية في الثقافة المغربية من جيل السبعينيات والقلائل جدًا من جيل الثمانينيات، ناقلين لهم عدوى البحث والاستقصاء والكتابة والإبداع، فلم يجعلوا من الجامعة مكانًا للتدريس فقط، بل فضاء رحبًا لإنتاج الأفكار  وابتداع المفاهيم الأدبية والتاريخية والسوسيولوجية ومساءلتها نقدًا وتفكيكًا داخل جملة من الندوات التاريخية التي أقمتم بالرباط وفاس، والتي وصل صداها الفكري الى الأجيال اللاحقة، بل وحتى اليوم مازالت مداخلاتها تتداول داخل الجامعة المغربية بالكثير من الرتابة الاستهلاكية سواء تعلق الأمر بالدكاترة أو الطلبة.

وفي الوقت الذي أجدك تحاضر مشرقًا ومغربًا وتكتب وتحاور، أجد فيه رهط من الجامعيين عندنا جعلوا من الجامعة منزلًا أبديا لهم ومكانًا للراحة والاستراحة بعد تعب السنين من الدراسة وللاسترزاق لا للبحث العلمي، فصفة الببغاء التي أعطيناه إياها ذات مقال، وهو يستحقها عن جدارة، ليس غايتها التجريح والتذميم بقدر ما هي تشخص عطبه في كيفية اكتساب المعرفة وتبادلها على شكل صور مشوهة في أحايين كثيرة، وأيضًا عن  وضعه المزري داخل الجامعة لاكتفائه باستهلاك المعرفة عوض إنتاجها، بل أن جل ما يجيده فعله هو اجترار معتم للمفاهيم والنظريات، التي دأب على ترديدها منذ تعيينه بالجامعة لأول مرة.

*

عزيزي عبد اللطيف،

أكتب اليك لأداري بعضًا من حزني..

المثقف الجامعي أو ما أسميه بالمثقف الببغاء، هو عبء اليوم على الثقافة المغربية المعاصرة بتاريخها الجريح، فقد أصبحت الجامعة بسببه اليوم تعيش على ماضي هذه الثقافة، التي ليست هي نفسها الموجودة اليوم، أليس دور المثقف الجامعي إنتاج المعرفة عوضًا عن استهلاكها من أفواه؟ والطلبة وما يقومون به من بحوث ودراسات في نهاية السنة أو فيما يسمونها ببحث التخرج، الذي هو عبارة عن عملية تقطيع وتلصيق من المواقع الإلكترونية الباهتة؟ أضحت الجامعة اليوم تنتج لنا طلبة معاقين ذهنيًا ويعانون من فقر دم الخيال. الشعر والتشكيل والسينما وتاريخ الفنون عمومًا بمفهومها الأرسطي الواسع أشبه بالحلقة المفقودة داخل الجامعات المغربية، مختبرات مشوهة فارغة من الفن والجمال.

الجامعة المغربية امتداد عميق لسياسة الاستعماء عن الواقع التي بات ينهجها المغرب على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية

فقد نجحت الجامعة المغربية اليوم في إنتاج إنسان آلي لا يحلم، بل هي امتداد عميق لسياسة الاستعماء التي بات ينهجها المغرب على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية، والتي تروم إلى خلق إنسان هش، آلي، لا يفكر، ولا يرسم، ولا يغني نشدانا للحياة، إنسان لا يعرف قيمة الفلسفة والجمال والشعر وما تحدثه هذه المواد من ارتجاج ورعشة تدب في الجسد، وما تمارسه علينا من سحر وتجميل لحياتنا الرتيبة، وما تفرض علينا من أسئلة وجودية قلقة عن ذواتنا، وأيضًا عن الآخر الذي أصبحنا نعيش فيه ويعيش فينا، بل كل ما يعني الجامعة المغربية اليوم هو أن تخلق إنسانًا شبيهًا بالفرد الأوروبي قبل عصر النهضة، الذي نشأ وترعرع في الظلمات بين أحضان الكنيسة، والذي ظل يعيش في كنفها ويقتات من سراديب أفكارها المعتمة، أليست الفلسفة هي من حررت ذلك الكائن الأعمى من جبروت الكنيسة وما كانت تمارس عليه من تضليل، فأخرجته الفلسفة من سراديب التاريخ ليعانق رحابة التفكير أدبيًا وفنيًا وفلسفيًا إبان ما سمي بعصر النهضة؟

اقرأ/ي أيضًا: لماذا لا يجب تعريف التفكيكية؟

لم أستغرب قبل شهور من قرار نسف الفلسفة من البكالوريا الدولية وتعويضها بمادة التربية الإسلامية، فهو قرار يأتي من ضمن القرارات المفزعة التي بتنا نشهدها يومًا بعد يوم إبان حكومة العثماني، والتي سيشهد التاريخ لا محالة هذه المهزلة التي ابتدعتها باسم العلم والمعرفة والإصلاح الهدام، تتحمل اليوم جميع المسؤوليات الجسيمة التي ألمت بالتعليم العمومي، بل تعتبر أول حكومة في تاريخ المغرب التي استطاعت أن تتحدى المجتمع والتعليم المغربي، وأن تفرض نظامًا مجحفًا يخضع بموجبه الأساتذة داخل وزارة التربية الوطنية للتعاقد القابل للتمديد مدة سنتين أو الطرد أيضًا في أن واحد.

نجحت الدولة في ضرب الجامعة العمومية بكل أطرها وطلبتها، لأنها أحست في لحظة ما بخطرها وما أصبحت هذه الأخيرة تلعبه من دور ثقافي وسياسي، إبان مرحلة تاريخية شهدت غليانًا سياسيًا وثقافيًا، وحتى يتأتى لها النجاح في هذا الهدم كان عليها أولًا ضرب الحركات اليسارية الاعتراضية المنتشرة والمتربعة على عرش الجامعات المغربية من تجمعات وخلايا وحركات طلابية تقدمية، كان التعليم والقضية الفلسطينية في مقدمة برنامجها، إضافة الى مسألة أساسية في نظري ساهمت في تعطيل عجلة التعليم المغربي ورقيه وهو إدخال ذئب الحركات المهادنة للسلطلةإلى الجامعة، والتي كان الهدف منها أولًا وأخيرًا هو تكسير شوكة اليسار المغربي والتقليص من وهجه.. ثم مخزنته في مرحلة لاحقة.

نجحت الدولة في ضرب الجامعة العمومية بكل أطرها وطلبتها، لأنها أحست في لحظة ما بخطرها

إن أي دعوة تدعو اليوم إلى إعادة احياء اليسار المغربي، هي دعوة صريحة من صاحبها إلى مخزنته وتمريغ ما تبقى من كرامة أمجاده على الأرض.

اقرأ/ي أيضًا: "طفلُ البيضة" لأمين الزاوي.. العزلة والفقدان وفوبيا الآخر

لا يحزنني واقع الجامعة المغربية اليوم، بقدر ما يحزنني الرفاق الذين رحلوا بعد أن قاسموكم كسرة خبز حافية في مستنقعات باردة وسراديب مظلمة، وهم يحلمون بمغرب "أفضل"، كم ترهبني هذه الكلمة.. فضلًا عن النساء اللواتي فقدن أبناءهن وبعثن برسائل إلى سجون ومعقلات مجهولة.

 

صديقي عبد اللطيف،

لقد تقرح قلبي وأنا في زهرة شبابي بتفاهة وعفن المرحلة وبأسئلة جد قاحلة..

 

عزيزي،

لم يعد هنالك شيء أجمل من الصمت والحلم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بول أوستر: كتبت الكتاب على عمى

شلومو ساند و"نهاية المثقف الفرنسي".. من رهاب اليهودية إلى رهاب الإسلام