30-يوليو-2017

من العرض

لم يغادر المسرح في الجزائر منصّة تعرية الواقع المعاش. سواء خلال فترة الاحتلال الفرنسي، إذ كان واحدًا من الروافد النضالية، أو خلال فترة الاستقلال الوطني، إذ قارب اللحظة الجزائرية في تحوّلاتها المختلفة، بنبرة ناقدة أحيانًا وأخرى ساخرة أحيانًا أخرى، وحتى الأعمال التي حُسبت على الأيديولوجيا الحاكمة، في سبعينيات القرن العشرين، كان هدف نسبة كبيرة منها نقدَ الوعي السّائد وخلق وعي جديد، لصالح الفكر الثوري الذي يؤمن به مخرجوها لا لصالح النظام القائم.

لم يغادر المسرح في الجزائر منصّة تعرية الواقع المعاش، سواء خلال فترة الاستعمار أو الاستقلال

في ظلّ هذه النزعة الجامعة بين النقد والسّخرية، أنتج المسرح الجهوي لمدينة معسكر، 400 كيلومتر إلى الغرب من الجزائر العاصمة، عملًا مسرحيًا جديدًا حمل عنوان "عزيزي طرزان". أشرف على رؤيته الإخراجية قادة شلبي والسينوغرافية نور الدين بعطوش والموسيقية عبد الرحيم زياني والنصية فتحي كافي عن إحدى قصص الكاتب التركي عزيز نيسين. بممثل وحيد هو أحمد الأكحل المعروف ببقبوق.

اقرأ/ي أيضًا: عيسى شوّاط.. الاستثمار في بلاغة الجسد

العرض الذي افتكّ جائزة أفضل عمل متكامل في الدورة الأخيرة لـ"المهرجان المغاربي للمونودراما"، اتخذ من تجمّع سكني عشوائي يسمّى "حي السلام" نموذجًا لرصد جملة التناقضات الفكرية والنفسية والسلوكية لجزائر ما بعد الإرهاب. حيث المدرسة بجوار السجن. والمستشفى قرب المقبرة. والمسجد بمحاذاة الحانة،  وعند نشوب النزاع بين رواد المسجد ورواد الحانة يُطرح هذا السؤال: من هو الأقدم سكنًا في الحي؟ في إشارة إلى تحكيم الشرعية التاريخية على حساب شرعية المواطنة.

بعد تحقيق مع مسنّي الحي، يُكتشف أنه "طرزان"، وهو كلب شريف يحب الحيّ وأهله. في الأثناء يزور عالم اجتماع فرنسي حيّ السّلام لدراسة بعض ظواهره، فتتعرّض ابنته للتحرّش من طرف أحد شبابه، فيكون له طرزان بالمرصاد، وهو ما يمهد لعلاقة عميقة بين الكلب الشريف والجميلة الفرنسية.

تنتهي مهمّة الباحث الفرنسي، ويقرّر العودة إلى بلاده، فتصرّ ابنته على أن تأخذ طرزان معها، وهو الأمر الذي يوحد السكان والحكّام ضدها، بحجة أن طرزان أصيل الأرض ومن العار أن يسمحوا لأجنبي بأن يأخذه معه إلى ما وراء البحار. لكن ما أن يغادر الباحث وابنته حتى يتوحد الجميع مرة أخرى على قذف طرزان بالحجارة، فيصبح الضرب وجبته الدائمة. إنها الحقيقة الجزائرية التي أثبتت نفسها منذ الاستقلال الوطني، وهي أن الإجماع الوطني في الجزائر لا يثمره الرهان الحضاري المشترك، بل يثمره العدوّ لمشترك والتواطؤ المشترك ضدّ الكفاءة. 

يرصد عرض "عزيزي طرزان" جملة التناقضات الفكرية والنفسية والسلوكية لجزائر ما بعد الإرهاب

جعل التكامل بين عناصر العرض الانتقالَ من مشهد إلى آخر ومن حالة إلى أخرى سلسًا ومثيرًا للفرجة والفضول معًا. إذ كان الممثل أحمد الأكحل يعرّي، بموهبة فذّة، المتلقّي من أقنعته من غير أية مقاومة منه، بل كان يقابل ذلك بالضحك. وحضرت جميع الأصوات والرؤى الموجودة في حي السلام/ الجزائر في الحقيقة كما هي، لكنّ الحوار فيما بينها جعل تناقضاتها المختلفة تطفو إلى السّطح، بما يظهرها أورامًا حالت دون أن يصل الحيّ إلى حالة من التعايش والإيمان بالاختلاف.

اقرأ/ي أيضًا: "العسل عسل".. الأمور على حالها يا عم بيرم

صحيح أن الجزائريين باشروا مصالحة وطنية نهاية التسعينيات، بعد عشرية من العنف والدماء، لكنهم اقتصروا فيها على الإجراءات الأمنية، ولم يذهبوا بها بعيدًا في اتجاه المصالحة بين الأفكار والمواقف والرؤى، فبات التشنّج في الأقوال والأفعال بديلًا للسلاح، وهو مقام أتعب الجميع، وحال دون أن ينسقوا فيما بينهم للذهاب إلى المستقبل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

النوبة التونسية... أيقونة موسيقية ورسائل سياسية

"قواعد العشق 40".. الحب وحده لن ينقذ المسرحية