22-أكتوبر-2019

غابريل باتشيكو/ المكسيك

ثمّة حنين خافت، ولكنه مستمرّ، لصباحٍ قديم أجدني فيه مقبلًا على الحياة؛ لا أخشى الخروج للعالم وكأنني أتهيّأ لمواجهة وحش في مستوى متقدم من أحد ألعاب طفولتي، صباح من فرط عاديته لا أستطيع كتابته ولكن يمكنني التعرّف عليه كما تتعرّف الأذن على النغمة الجميلة. ما الذي تغيّر؟ أين ذهبت الصباحات القديمة؟ ما الذي يصنعه العقل بنا كي يُفقِد الأشياء بهجتها ويؤطّرها بالكآبة. عزلة عنيدة وعزاء بائس. لا شيء تغيّر: الصباح المكرّر ذاته، مباغتة الصور المؤلمة، الوحدة القديمة، الخوف، الصمت الأخرس، أحلام اليقظة المرتجلة. لم يعد لي إلا الهباء واستدعاء الشغف القديم. كيف يمكنني اجتثاث الوحدة؟ ربما يكون من المفيد لي الآن الدخول في مجال مغناطيسي قوي قادر على اختراق أنسجتي وتصفيتي من ترسّبات أزمنة كثيرة عشتها. كأن يستطيع الوصول إلى ذكرى صدئة رابضة في أحد أركان لاوعيي (تلك الذكريات الخارجة لسطح الوعي في لحظات غير مناسبة على الإطلاق)، وجذبها بالقوة الكافية لإطلاقها خارج مجالي النشط، وبالتالي نسيانها تمامًا. كيف يستطيع الواحد تعديل أرشيف ذكرياته وصنفرة لاوعيه وإزالة الشوائب العالقة به؟ تبدأ الآن التفاصيل الصغيرة في النزوح إلى جبهتي. بازل. دماغي يفور باندفاعات كهربية أكاد ألمس تأثيرها في سخونة رأسي. أفكّر في النباتات وكيف أنها لا تصدر ما يدلّ على معاناتها. ربما الأشجار النفضيّة تعرف كيف تعبّر عن إحساسها بالبرد. لكن من قال إن البرد سبب كاف للمعاناة. أنا أتحدث عن المعاناة التي يحدثها التعاطي مع أفكار كالحب، والوحدة، والموت، والخواء، وكل تلك البذاءات.

أريد أن أتوقف عن الكتابة أو ربما أحتاج مُنى بجواري. أنا أثق بوجودها دومًا. كثافتها الأثيرية قادرة على إضفاء الوزن على الأرض وملأ حيزنا المشترك بهذا الشيء الغريب والباعث على الألفة: المعنى. يا لسذاجتي المندفعة، أترك للكيبورد مهمة جرّي إلى مساحات غير مأمونة، تجعل الألم مُركّزًا أكثر. في مثل هذه الحالات غالبًا ما أستمع للموسيقى لإسكات صوت الطنين ودبيب النمل في رأسي، الموسيقى التي أدمنتها في وحدتي وتأرجحت بين عوالمها الموغلة في تباينها. يمكنني عدّ الكثيرين ممن استوجدتهم في حجرتي للتعوّذ بهم من الانسياب في أفكار مؤلمة تبتعثها الوحدة: رشيد طه، كاميليا جبران، إيلّا فيتزجرالد، آلينا أورلوفا، ريجينا سبكتور، توم وايتس، إيديث بياف، ياسمين حمدان، أنور براهيم، بوب ديلان، ميلاني باين، باخ، توفيق فرّوخ، وأصدقاء آخرين أترك لموجاتهم الصوتية مهمة اختراقي ودفق نفسها في خلاياي. نادرًا ما ينجح ذلك التكنيك في صرف أفكار الوحدة، غير أني اعتمدته وداومت على فعله لأنني أحبّ الموسيقى وأثق بها. أثق بالموسيقى لأن ثمة أشياء علينا الوثوق بها كي نستطيع عبور اليوم. من بين هذه الأشياء التي تستحق الثقة والاحترام لحظة انقطاع التيار الكهربي في الليل. لحظة تربك الخطط وتجبرني على ارتجال خطط جديدة. الرهان يكون على حدث غير متوقّع وغير محدّد التوقيت: عودة التيار. لحظة تعطيني مساحة جديدة من الوقت المظلم. أي فعل أقوم به أثناء تلك اللحظات مفاجئ ومؤقت وربما شعرت بالامتنان لفعله لأنه لم يكن واردًا في السياق الطبيعي لليوم. هناك أيضًا تلك اللذة الغامضة في أي فعل أقوم به أثناء انقطاع التيار وكأنه حدث آت من خارج الحياة. تلك اللحظة ليست مُوجّهة وغير مقترنة بفعل محدد، أنا من يحدّد وجهتها في محاولتي لتثميرها.

اعتدت التمدد على سريري وارتجال حلم يقظة غالبًا ما يعتمد تيمة السفر أو الحب، لكن في المرة الأخيرة التي انقطع فيها التيار في بيتنا (ويحدث ذلك عادة في الصيف أو الشتاء لا فرق) كنت على سريري أيضًا، مع رفيقي الجديد آيفوني الحبيب من الجيل الرابع، أتحدث مع صديقة على تشات فيسبوك عن وسائل الاتصال واختلاف السياقات وسوء الفهم الذي يرعى فيه العالم. انقطع التيار دون أن يتأثر الحوار الدائر خلف شاشتين. فكّرت: هل وسائل الاتصال الحديثة تحرمنا من متعة إبقاء التوتر اللذيذ لوصل ما انقطع، أم أنني شخص فقريّ لا يشكر ربه على نعمة التكنولوجيا التي سخرت للبشرية طريقًا سريعًا لا يتوقف للاسترسال في أحاديثهم وأفعالهم؟ آه، ما العمل مع أسئلتي المتوالدة ذاتيًا؟ في كل جملة أكتبها تطلّ علامة الاستفهام وكأنها تؤكد لي أن الإنسان لا يجب أن يضيّع عمره في البحث عن الإجابات. ولا الأسئلة والله. أتذكر كلام مُنى عن الأسئلة غير الرحيمة وعذاب الإنسان الذي يصنعه إدراكه ووعيه بوجوده.

وجودك في هذا العالم في حد ذاته دافع للألم، وللأسف لا علاج لذلك يا عزيزي. بالمناسبة، الانتحار ليس حلًا. المنتحرون مثاليون غالًبا أو أرهقتهم محاولاتهم في تكييف معطيات وجودهم مع متطلباتهم الطفولية الأولى.

حسنًا، لم يأت الأوان بعد. لن أنتحر اليوم يا مُنى إذ لا ضرورة من هذا الانتحار، فأنا مقيمٌ فيه وهو مقيمٌ في. سأحاول أن أكتب إليك شيئًا مما كنت أريد كتابته قبل لقائنا الأخير. أكتب إليكِ كمحاولة - ليست الأخيرة بالطبع - لتأطير هذياني اليومي المحموم، وسدّ فراغات ماثلة بتعيّنها الفادح في روحي المثقوبة (بفعل عوامل التعرية ربما). أحاول ملء البياض الشاسع أمامي بكلام مُرّتَّب ومُنسَّق، وعبثًا تؤول كل محاولاتي البائسة. الوقت ليس مناسبًا لحدوتة ملوّنة أحكيها لكِ كي أحصل – في نهايتها - على قبلة طويلة وأسترجع شعور التفاح في قلبي. ربما – فقط – أريد منك استحضار الجوّ المحيط بي وتحطّ روحك في حجرتي لتهدهد وجودي المذبذب، وتلمس بخفّة أثيرية أشيائي القليلة كي أتعوَّذ من فراغ الصمت الكثيف والوحشة الهائلة للوحدة الباردة والرعب الكامن في الأشياء. هل تتذكرين نصائحك كي أظلّ على علاقة حميمة بالعالم؟

لوركا – حبيبتي - كان يبحث عن خلودٍ مؤقت وعناق أخير للحياة حين أوصاهم بترك نافذته مفتوحة، أما أنا فأريد كي يتأكد وجودي لمسة يد خفيفة على كتفي تأتي من الوراء والتفت لأفاجئ بوجه محبوب، ويا سلام لو كان وجهك. ربما تأخذني اليد في جولة ليلية مزخومة بتفاصيل طازجة تساعد في إعطاء شكل بانورامي لحياة خالية من الأحداث الكبرى، فأبدأ في التصالح معها، وربما - من يدري - يحدث تصعيد درامي بمرور الوقت – وعوامله - فأحبها.

تعرفين، لا شيء يقارن بقسوة المحاولة المتكررة لممارسة الوجود والاعتياد المقرف على الحياة. الحياة لمجرد الحياة. أن تكملي يومك - فقط - لأنه لا يوجد بديل آخر. الحياة حين تصبح ورقة نقدية مزوّرة، لكن الجميع قبلوا التعامل بها. يصبح كل شىء مزدوج وغير محدد وذلك الإحساس بعدم الاتساق مع أي شيء. وتظهر مصطلحات من نوعية "الاغتراب الروحي" و"أزمة المثقف" وكل ذلك البضان المكرّس لوحدتي واغترابي المُصدَّر للآخرين، والانتحار- ربما - كحلّ أخير. آه، كم أنا شاحب، مُموَّه، مُضَبَّب. أنا أقلّ واقعية من ذلك الكرسي المستفزّ المواجه لي منذ علبتي سجائر في يومٍ كئيب أحمق أجدني دون رغبة - ولو ضعيفة - في الحياة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فوضى الألوان

كنوز المحاربين