11-سبتمبر-2019

لا تصح قراءة التاريخ العربي الإسلامي على أنه تاريخ طوائف (ألترا صوت)

ما هي الأشكال الأوّلية للطائفية؟ وكيف أصبحت الطائفية السياسية مُمكنة؟ وما هو دور هذه الأخيرة في إنتاج وتشكيل الطوائف المتخيّلة؟ هذه بعض الأسئلة المنهجية، وربّما المفتاحية لفهم مؤلّف عزمي بشارة الموسوعي حول تطور الطائفية في المجتمعات العربية. وهو مؤلّف، كما يقول صاحبه، "لا يأتي مصادفة ولا يقوم بتمارين نظرية في فراغ وجداني"، بل يُلبي حاجة علمية وواقعية ماسة في مجتمعات تُهددها الانقسامات والحروب، "فالمشرق العربي، ولاسيما العراق وسوريا واليمن، وسبقهم لبنان، يعيش مرحلة يبدو فيها كأنه دخل أتون حرب أهلية طائفية تشبه في بعض الوجوه حرب الثلاثين عامًا التي شهدتها أوروبا ويؤرّخ لها عادة في الفترة 1618 – 1648م".

خطأ تاريخي جسيم أن نقرأ تاريخنا على أنّه تاريخ صراع بين الطوائف. يُقرّر عزمي بشارة هذه النتيجة، وذلك بخلاف ما تعرضه بعض الأدبيات الاستشراقية عن تاريخ المجتمعات العربية

من المستحيل استيعاب نص بشارة "الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيّلة" في مقال واحد أو عشرة مقالات حتى، فهو نص تقاطعات. يتقاطع فيه التنظير الفلسفي والفيلولوجي مع التحليل التاريخي السوسيولوجي لصيرورة زمنية تزيد على 14 عشر قرنًا بوقائعها وأحداثها المتشابكة، هذا إضافة إلى أن الكتاب يستعرض ويُحلل حالات تاريخية من الطائفية، ويتضمن نماذج راهنة  للطائفية السياسية مثل الحالة العراقية، التي أفرد لها بشارة قسمًا كاملًا من كتابه، والحالة اللبنانية، والحالة الإيرلندية كمثال من خارج السياق العربي. 

حسبُنا إذًا أن نقدّم بعض الإضاءات حول هذا المؤلّف الضخم الذي يتجاوز 900 صفحة، وأن نبيّن قدر الإمكان موقعه في المكتبة العربية والعالمية كعلامة فارقة في مجال التنظير حول المسألة الطائفية، فمؤلِّف كتاب "في المسألة العربية" وصاحب كتاب "الدين والعلمانية في سياق تاريخي"، قد قدّم، بدون مبالغة، نظريةً جديدة في الطائفية السياسية، ولم يكتف بالتنظير وإنما حاول اجتراح الحلول القمينة بتجاوزها، بعد أن قام بمراجعة نقدية للحلول الإجرائية المتداولة في تسوية الصراعات الطائفية، وعلى رأسها الديمقراطية التوافقية التي يعتبر أرينت ليبهارت أشهر منظّريها.

اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة.. في أولوية الفهم على المنهج

الظاهرة الطائفية، إذا صحّ الوصف، مثلُ جميع الظواهر الاجتماعية التاريخية، عرفت التطور من أشكال أوّلية جنينية إلى أشكال أكثر تطورًا، أهمّها بالنسبة للدارسين ظاهرة الطائفية السياسية التي تعتبر اليوم أحد أهم تحديات الدولة الوطنية العربية.

خطأ تاريخي جسيم أن نقرأ تاريخنا على أنّه تاريخ صراع بين الطوائف. يُقرّر عزمي بشارة هذه النتيجة، وذلك بخلاف ما تعرضه بعض الأدبيات الاستشراقية عن تاريخ المجتمعات العربية. حيث تحاول بعض تلك الأدبيات جعل الصراع السني الشيعي محور التاريخ الإسلامي ماضيًا وحاضرًا، ولا يخفى أن الهدف وراء ذلك هو الاستغلال السياسي،  ولم يجد أحد هؤلاء "المستشرقون الجدد" غضاضة في محاولة إقناع صناع القرار في الولايات المتحدة أن نشر الديمقراطية في المنطقة يتطلب التحالف مع الشيعة والتخلي عن ما أسماه "الدكتاتوريات السنية" أو العكس في حالات أخرى، لكن ذلك لا يُعفي الباحث الجاد من استكشاف الأعطاب التاريخية واستكشاف المحطات التي شكّلت منعطفات تحوُّل نحو مأزق الطائفية السياسية، بتحويل الصراعات السياسية والمذهبية المبكّرة إلى صراع هويات قائمة على معتقدات دينية.

يعتقد بشارة أنه لفهم تطور الطائفية في المجتمعات العربية ينبغي تحليل العناصر التالية:

  • 1 التمييز بين المذهب والتمذهب وتشكّل الطائفة بوصفها كيانًا اجتماعيًا.
  • 2 رصد تحوّلات الجماعة الطائفية تاريخيًا.
  • 3 التمييز بين الطائفة بوصفها كيانًا اجتماعيًا محليًا أهليًا والطوائف المتخيّلة.
  • 4 فشل تحوّل الإمبراطورية العثمانية في مرحلة التنظيمات إلى الأمة والمواطنة.
  • 5 دور الاستعمار والتفاعل مع الغرب عمومًا في نشوء مسألة الأقلّيات وسياسة الهويات.
  • 6 قدرة الدولة الوطنية على دمج الجماعات على أساس المواطنة.
  • 7 تحولات النخب السياسية في النظام والمعارضة واستثمار الهوية الطائفية في الصراع على الدولة.

هذه العناصر التحليلية يمكن اعتبارها خطاطة منهجية ضرورية لمن يريد فهم تطور الطائفية عربيًا. وفي ضوئها كذلك يمكن حسب بشارة "فهم نشوء الطائفية من جهة والقومية من جهة أخرى"، وينبغي أن لا نُغفل أهمية ثنائية "الطائفية والقومية"، فلاحقًا تصبح الدولة الوطنية حلبة صراع بينهما على تنظيم العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة.

طائفية اجتماعية ودينية

لفظ الطائفة في أصوله اللغوية العربية لم يرتبط دلاليًا بالجماعة الدينية والمذهبية، ويبدو ذلك جليًا بالعودة لاستعمالات اللفظ في القواميس اللغوية وحتى في المفهوم الوصفي الإسلامي الكلاسيكي للطائفة، فالطائفة هي دائما طائفة من جماعة أو طائفة من فئة أو طائفة من الأشياء.. وبالتالي فهي دائمًا جزء من كل، ولا تعبر عن كل ديني أو مذهبي أو حتى عن كل من الأشياء. كان ذلك قبل أن ينصرف مدلول الطائفة مع الزمن ليكون تعبيرًا عن جماعة من البشر تحديدًا، وليس عن طائفة من الأشياء، وفي هذه اللحظة أصبح من الممكن الحديث عن طوائف اجتماعية قد تمثل رأيًا سياسيًا أو مذهبيًا أو قد تكون حتى سلالة من العائلات الحاكمة على غرار ملوك الطوائف، فالطوائف في هذه الحالة سلالات وأسر، وليست مذاهب أو فرق أو جماعات دينية.
أما الدلالة التخصيصية في حالة مصطلح الطائفة (الدينية أو المذهبية) فقد ازدادت في عصرنا حسب بشارة، فلم تدخل لفظة الطائفة حيز التوظيف التفسيري لصراعات الماضي المذهبية والسياسية، إلا مؤخرًا، بخلاف مقولة الفرق/ الفرقة/ الافتراق، المذاهب، الجماعة، التي دخلت حيز التداول الوصفي والتفسيري للصراعات السياسية والدينية في فترة ما بعد الإسلام المبكّر، وإن كان القرن الخامس الهجري قد سجّل ظهور عبارات "الطائفة الظاهرة" و"الطائفة المنصورة" و"شيخ الطائفة". ولهذا الظهور دلالة بالغة الأهمية مع الانشغال الكبير "بحديث الافتراق" المشكوك في صحّته أصلًا. لكن عزمي بشارة يعتقد أن هذا الظهور لمصطلح الطائفة لم يتطور من مضمونه الوصفي لتبيان ملامح مضمونه المعياري السلبي إلا في مراحل متأخرة.

بناء على هذه التحديدات اللغوية يمكن القول، فيما يتعلق بلفظ الطائفة، إنها في الأصل جماعة محلية أهلية. أما الطائفية فهي انتماء عصبوي إلى جماعة تربطها رابطة العقيدة وليس بالضرورة الإيمان بهذه العقيدة وممارساتها. وهذه إحدى المفارقات الجديرة بالتّأمل فيها. فليس بالضرورة أن يكون المتدين طائفيًا والعلماني غير طائفي، فأحيانًا كثيرة نجد الآية معكوسة. أي نجد العلماني طائفيًا والمتدين غير طائفي.

التمذهب والتطييف

"في القرنين الثالث والرابع الهجري جرت عملية إسقاط الخلاف المذهبي المتبلور والصراع السياسي، بما فيه صراعات العهد العباسي، وليس الأموي فحسب على التاريخ السابق، وكأنّ تيارات القرن الرابع المذهبية كانت دائما أحزابًا ثابتة في الإسلام منذ وفاة النبي". فالصراع على الإمامة الذي كان في جوهره صراعًا سياسيًا بظلال وتعليلات قَبَلية "منّا أمير ومنكم أمير"، التي وردت بشكل واضح في اجتماع "سقيفة بني ساعدة"، استُغل في القرن الرابع الهجري للتمايز بين المواقف الدينية، وتجلى ذلك بوضوح في تأسيس ثيولوجيا أو خطاب ديني كامل يمكن تسميته بثيولوجيا الخلاف على الإمامة.  وقد تحوّل هذا الخطاب الثيولوجي حول الإمامة إلى مذاهب في تفسير النص القرآني وقراءة السيرة النبوية، ولاحقًا تحول إلى اختلاف لاهوتي مذهبي بعبارة بشارة.  لكن هذه الاختلافات اللاهوتية لم تتحول إلى طوائف اجتماعية عابرة للمحلات الصغيرة إلا بعد مرور قرون أخرى. 

في بغداد القرن الرابع الهجري اتخذ الخلاف الشيعي – السني شكل جماعات اعتقادية واضحة، حيث اتخذت الخصومة شكل مناوشات واقتتالات بين حاراتها ومحلاتها. وبعبارة أخرى بلغت صناعة الطائفية القائمة على "نحن" مقابل "هم" حدودها القصوى. وبدا ذلك جليًا في وضع الحدود الاجتماعية بين الفرق، ومنها منع زواج الشيعي بسنية والسني بشيعية كما ورد في كتاب "الفَرق بين الفِرق" لعبد القادر بن طاهر البغدادي. في القرن الخامس الهجري. 

عمليًا إذًا، جرى التكون التأسيسي المنظومي للشيعية والسنية في القرنين الرابع والخامس الهجريين. من ناحية القيام بصياغة محددة للعقيدة والعبادات والشعائر والمؤسسة الدينية، ويصح ذلك بالنسبة إلى التمذهب السني بحصره في مجموعة مذاهب فقهية سائدة في العصر المملوكي. "ثم يتطور التمذهب خلال الحرب العثمانية – الصفوية التي ستكرّس المؤسستين السنية العثمانية والشيعية الصفوية بدءًا من القرن السادس عشر الميلادي".  لقد كانت مذهبة الصراع بمثابة بداية فعلية لتطييفه. وخطوة فارقة في ميلاد الطائفية السياسية.

الطائفية السياسية.. طائفية بآليات الدولة

قد يكون صادمًا القول بأن الطائفية السياسية هي التي أنتجت الطوائف، وليس العكس كما يعتقد البعض، فوجود الطوائف لا يعني بالضرورة تطييفًا سياسيًا قائمًا على الإلغاء وطمس الحدود بين الخير والشر  والرذيلة والفضيلة، وجعل الحدود بين "نحن" و"هم" محلّها. هذا الدور تنهض به الطائفية السياسية فقط لأنّها تكون قد تدثّرت بقوة السلطة وصارت وجهًا لها، أي بعد أن أصبحت كيانًا اجتماعيًا عصبويًا في علاقة ولاء مع النظام السياسي القائم. وقد عمدت أنظمة سياسية عديدة ماضيًا وحاضرًا إلى القهر الطائفي وخوض معاركها بناء على الانتماء الطائفي، ويمكن أن نضرب مثالًا على ذلك تشييع إيران الصفوية بالقوة في عصر إسماعيل الصفوي، وفي تسنين المشرق العربي وأسلمته في العصر المملوكي. 

الأمر الذي جعل الصراع على الدولة في أحيان كثيرة صراعًا بين طوائف، ويوافق عزمي بشارة في هذا الصدد ما ذهب إليه برهان غليون في كتابه " نظام الطائفية" أنّ "كلّ تطييفٍ للدولة، أي إخضاعها جزئيًا أو كليا لصالح فئة معينة اجتماعية أو مذهبية، وفي أي زمان ومكان يُفقدها صفتها كمؤسسة عمومية أو للعموم، ويؤدي كرد فعل طبيعي إلى دولنة الطائفة"، أي جعلها دولة، وهنا يبرز الوجه العنيف للطائفية السياسية، لأن الطائفة، بحكم تلبسها بالدولة، تصبح "محتكرة" لآليات العنف. 

حول علاقة الطائفية بالدولة كجهاز سلطة يتوصل عزمي بشارة إلى نتيجة غاية في الأهمية وهي أن الدولة تُنتج الطائفية وليس العكس في عملية الحفاظ على الحكم أو في الصراع على اقتسام الدولة، وأن الطائفية السياسية هي التي تُنتج الطوائف والطوائف المتخيّلة معًا، أي تلك العابرة للحدود. 

الطوائف المتخيّلة

لا يُمكن تصوّر الطوائف داخل الدولة الوطنية الحديثة إلا كطوائف متخيّلة، ذلك أنها تجاوزت حدود الجماعة الأهلية والعلاقات المباشرة بين أفرادها، إلى جماعة بشرية كبيرة من السكان لا يلتقيها الإنسان في حياته اليومية ولا يتواصل معها بوصفها جماعة مباشرة، "بل يتخيّلها كأنها جماعة كهذه بالانتماء بواسطة الطقوس والشعائر والأعياد الدينية المتزامنة؛ كما يجري تخييل مصلحة واحدة للطائفة في العلاقة بالدولة لناحية حساب حصّتها في الدولة ونصيب أعضائها فيها، وتخييل ماض مشترك للطوائف ومتواصل تاريخيًا ويشمل مظلوميات وشهداء وأبطال وأصحاب إنجازات يتم التركيز على انتمائهم الطائفي (حتى لو لم يعن لهم شيئًا في حياتهم)، وأماكن مقدّسة دينية أو علمانية وقعت فيها معارك في الماضي، أو كانت مسرحًا لأسطورة منشأ الطائفية الدينية، وتحديد علاقة تشكيك في نيّات الطوائف الأخرى بناء على تجارب مصوغة، وتنمية ذاكرة مشتركة لا علاقة لها بالتاريخ الحقيقي". 

اقرأ/ي أيضًا: النقاش عن الطائفية: اتهام الدين لتبرئة السلطة

ما يميز الطائفة المتخيّلة حديثًا أنها لا تُشكل مرجعية أخلاقية لأنها عصبية من دون جماعة أهلية عينية، ومن ثم من دون إطار للفضيلة. ولذلك يعتقد عزمي بشارة أن الحل الأخلاقي قبل الحل التوافقي الإجرائي الذي تبشّر به الديمقراطية التوافقية، التي أثبتت محدودية نجاعتها في العديد من البلدان. 

يمكن القول بأن المفكر العربي عزمي بشارة طوّر نظرية عربية جديدة في الطائفية وعلاقتها بالطائفة من جهة والطوائف المتخيّلة من جهة ثانية

مما سبق يمكن القول بأن المفكر العربي عزمي بشارة طوّر نظرية عربية جديدة في الطائفية وعلاقتها بالطائفة من جهة والطوائف المتخيّلة من جهة ثانية. ولعل فرادة هذه النظرية هو تطويرها من تجربة الأقطار  والمجتمعات العربية وليس من التجربة الأوروبية. 

 

اقرأ/ي أيضًا: