18-نوفمبر-2018

عزمي بشارة في محاضرة سابقة

لافتة ومهمة المساحة المتأنية التي أفردتها صحيفة اللوموند الفرنسية عبر مقابلة مطوّلة وبورتريه للمفكر العربي عزمي بشارة ونشرت في ١٦ من تشرين ثاني/نوفمبر الجاري، خاصة أنه وافق على طلب المقابلة بعد امتناع معروف عنه إزاء مقابلات الصحافة الغربية. فأول ما تشير له الصحيفة الفرنسية هو رفض عزمي بشارة الظهور أو الاهتمام بوسائل الإعلام الأنغلوساكسونية والإسرائيلية التي طرقت بابه مرارًا وعادت خالية الوفاض. ويجيب بشارة عن السؤال حول هذا الاحتجاب بالإشارة إلى أن تهميش القضية الفلسطينية وحقوق الإنسان في العالم العربي، والانشغال باستقرار الشرق الأوسط بما يعنيه من خضوع للاستبداد، بات ظاهرة في الغرب وهو ما يقلقه بشكل رئيس. من هنا تبدو الإجابة كتوجه نحو الجمهور الغربي بإثارة هذه القضايا من الرجل الذي خاض فيها أكثر من غيره عربيًا، حتى صار عنوانًا لها، وصارت مدخلًا مهمًا لفهم مناصرته أو الهجوم عليه عربيًا، وهو ما تتفحصه اللوموند عبر صحفيها بنجامين بارت.

تأتي مقابلة اللوموند الفرنسية مع عزمي بشارة لتتناول بهدوء فيلسوفًا ومفكرًا وسياسيًا من الأبرز عربيًا

وسط تسخير الإمارات والسعودية ومصر وسائل إعلام، من صحف معروفة وشاشات تتوالد بكثرة في السنتين الأخيرتين ومواقع إلكترونية وآلاف الحسابات الوهمية، للهجوم على عزمي بشارة، تأتي هذه المعالجة من الصحيفة الفرنسية لتتناول بهدوء فيلسوفًا ومفكرًا وسياسيًا من الأبرز عربيًا، في إطار هادئ يشتبك مع القضايا الأكثر صخبًا، ويحاول أن يعطي كثيرًا منها حجمها الطبيعي. ومن خلال ذلك يقدم الكاتب أيضًا صورة مختلفة عن دولة قطر، نقيضة لما تحاول السعودية والإمارات أن تروجه عنها. فالتهجم الإعلامي على عزمي بشارة إماراتًيا وسعوديًا والذي ازداد مؤخرًا، ومعها وقبلها من أزلام الاستبداد، ينطوي على اختلال غاية في الطرافة والبداهة، ويتجلى هذا الاختلال عند محاولة تصوير الرجل كليّ القوة وخارق الأثر في المحيط العربي، وفي الوقت عينه وصف مشروعه بالفشل وغياب التأثير أو الهزيمة. هذا الاختلال الفاضح تمر عليه اللوموند في ثنايا موادها بهدوء ساخر يشير إلى الأثر الحقيقي لبشارة ومنجزه كمفكر وفيلسوف ومثقف، تتقاطع كلها مع الواقع العربي والعمل على نهضته.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا تعرضت هذه الجولة من التحول الديمقراطي للفشل؟

هذا التناول التفصيلي لكل أوجه نشاط بشارة ومنجزه، يمكن أن يتهم بالانحياز من طرف اللوموند، ولعل هذا هو الدافع وراء اندفاع المواقع الإلكترونية الإماراتية والسعودية والمصرية لتزويرها وتشويهها، وهذا التشويه للمدقِّق فيه بمثابة إفصاح تام عما يزعج هذه النظم في طرح بشارة وشخصه. فمثلًا يقول بشارة في ذروة مهمة في المقابلة، ويبرزها بنجامين بارت في البروفايل، في ما يتعلق بإقامته في قطر وعمله البحثي فيها: "يوم ستمنعني قطر من العمل من أجل الديمقراطية، سأرحل. أما في الوقت الحالي، فيسعدني وجود مثل هذا الملاذ داخل العالم العربي. هل هناك مكانٌ آخر في المنطقة لا يستطيع السعوديون ولا الإيرانيون ولا الإسرائيليون الوصول إليه؟". هنا تُسقط المواقع الإماراتية والسعودية "الديمقراطية"، ويقولون في مواد صحفية موزّعة من مصدر واحد، إن بشارة يقول للوموند: "يوم توقفني قطر عن العمل، سأرحل". هذا التشويه والاجتزاء تأكيد على ما بات مؤكدًا وهو أن جوهر معاداة هذه النظم لعزمي بشارة، هو تنظيره للعدالة والديمقراطية عربيًا وعمله في سبيلها. ومما يكشف هذا التشويه -وهو من نزر يسير طال مادة اللوموند عند "اقتباسها/تخريبها" سعوديًا وإماراتيًا- مقدار الانزعاج من اهتمام اللوموند بمحاورة بشارة لخمس ساعات، مفكرًا وفيلسوفًا ومناضلًا ضد الاستبداد بتنويعاته، "يدافع عن أخلاقيات الالتزام الكلاسيكي، عند تقاطع عالم الأفكار وعالم السلطة، والمدفوعة بطموحٍ واحد: "نهضة العالم العربي"، حسب الصحيفة.

من أهم ما يلفت الانتباه في إطلالة اللوموند على عزمي بشارة، تصدير بارت للبروفايل الخاص به بقوله "إنه المثقف الذي يحلو لزعماء دول الشرق الأوسط كرهه"، ويمكن إدراك وقع هذا المفتتح على قارئ غربي حر يعتبر هذا الكلام إطراء كبيرًا لأنه يرى الاستبداد عدو المثقف الطبيعي، فما بالك بمن "أصبح بحكم الضرورة مثقفها العضوي" كما يصف عالم السياسة ستيفان لاكروا بشارة في الصحيفة، مؤكدًا أن ما قدمه بشارة للربيع العربي لا يقع ضمن القوى الخارقة التي يخترع خصومه بشأنها الأساطير، ولكنه "أنتج خطابًا منظّمًا حول حركة، وأعطى عناصر اللغة والخطاب، وصاغ ما كان الناس يستشعرونه بالفطرة".

تتعامل اللوموند بسخرية عقلانية مع المزاعم الإماراتية والسعودية ضد بشارة وكل الأدوار التي يزعم هذان النظامان اضطلاعه بها، وتورد في المقابلة ردًا من بشارة لعله الأول على هذه المزاعم، وتصفه الصحيفة بالرد الفلسفي، إذ يسخر بشارة ملمّحًا إلى ما تفعل هذه النظم بمواطنيها المعارضين، فيقول عن مزاعم هذه النظم: "لا بأس، يكفي أنه ليس باستطاعتهم تعذيبنا!".

عزمي بشارة: يوم ستمنعني قطر من العمل من أجل الديمقراطية، سأرحل. أما في الوقت الحالي، فيسعدني وجود مثل هذا الملاذ داخل العالم العربي

ومن الطريف ملاحظة كيف تورد وسائل الإعلام الإماراتية والسعودية ما تستعرضه اللوموند من مزاعم إماراتية -سعودية، على أنها رأي اللوموند نفسها! فحين تورد اللوموند اتهامات إماراتية وسعودية لبشارة بالمسؤولية عن "عدم تشكل حلف خليجي ضد إيران"، أو "زرع الفتنة بين ممالك الخليج المتسابقة إلى التطبيع مع إسرائيل"، تستغبي وسائل الإعلام هذه جمهورها وتلقّنه أن اللوموند نفسها هي من تزعم هذه المزاعم، وهذا من التضليل الذي بات بمثابة سياسة تحريرية ثابتة لهذه الوسائل والقائمين عليها.

في الأشهر الأخيرة أطلق المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات فرعًا له في باريس، ويواظب على ترجمة الكتب الفرنسية المؤسسة في التاريخ وعلم الاجتماع والسياسية، ويقترب عزمي بشارة من الاحتفال مع فريقه البحثي بإصدار الجزء الأول من المعجم التاريخي للغة العربية، المشروع المعرفي غير المسبوق والعمل العملاق، تفرد اللوموند جلّ بروفايلها عن عزمي بشارة لنشاطه البحثي المعرفي وبوصفه مؤسسًا لمراكز بحثية وأكاديمية لا نظير لها عربيًا، وبدأت تُخرّج جيلًا جديدًا من الباحثين العرب، يعوّل بشارة على اضطلاعهم بنشر أفكار التنوير في المنطقة العربية. هنا لا يفوت بنجامين بارت الإشارة إلى أن طموح بشارة إلى إعادة إحياء العلوم الاجتماعية في العالم العربي، سبب آخر لمعاداة نظم الاستبداد له، "فالعلوم الاجتماعية مجال تمت التضحية به في كثير من الأحيان لأنه يُنظر إليه على أنه معاد للأنظمة القائمة".

اقرأ/ي أيضًا: هل القومية العربية مشروع رومانسي؟

يعرّج بشارة على السبب الرئيس في مقابلته للوموند، وهو ما يشهده الموقف الغربي من تهميش للقضية الفلسطينية، ويرى أن الواجبات النضالية الفلسطينية تتمثل اليوم بأولويات ثلاث، "أولًا، يجب إعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية، أي إعادة بناء بيت مشترك للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية والشتات. بعد ذلك، ينبغي تحديد خصوصيات المعركة ضد الاحتلال، والسعي إلى تحقيق انتصارات صغيرة، مثل انتصارات المقدسيين في مسألة البوابات، وأخيرًا، من الضروري إخضاع فتح وحماس لضغطٍ شعبي بحيث يُجبرهما على التصالح".

حين تورد اللوموند اتهامات إماراتية وسعودية لبشارة، تستغبي وسائل إعلام هذه المنظومة جمهورها وتلقّنه أن اللوموند نفسها هي من تزعم هذه المزاعم

تبقى أخيرًا الإشارة إلى أن ما يرد في البروفايل من سيرة سياسيّة لعزمي بشارة في السنوات الأخيرة بكل ما فيها من مواقف وأحداث، في منطقة شهدت حروبًا وانتفاضات وثورات وثورات مضادة، في قلب منطقة متقلبة، تصفه الصحيفة بأنه "مسار يصيبك بالدوار". إلا أن هذا الدوار يزول بلا شك عند قراءة المقابلة المفصلة في الجريدة نفسها، حين يجيب عزمي بشارة بثقة ووضوح تامين على أدق تفاصيل هذا المسار السياسي ويشرحه بكل ما فيه من إكراهات وفرص وواجبات ومساحات نضال، وتقديرات دقيقة صائبة وأخرى استحقت المراجعة، وقبلها مبادئ "لا يمكن لكثيرين أن يتصوّروا أنه يمكن للمرء أن يكون في بلدٍ عربي وأن يظلّ ملتزما بها" حسب بشارة.  

تقول اللوموند عن بشارة، الماركسي السابق والقومي العربي صاحب العقيدة الليبرالية والديمقراطي الراديكالي، الكثير مما لا يدعيه أو ينسبه لنفسه، بل ولا يتفق معه ويعتبره مبالغة، فتصفه الصحيفة بـ"أكثر المفكرين شعبية في العالم العربي"، وتقول "بخصوص فلسطين والعالم العربي، إنه مؤثر جدًا"، وأنه بمثابة "مرشد روحي للمعارضة السورية"، و"بطل المجتمع المدني الفلسطيني" و"الراعي المرشد للمثقفين العرب الشباب"، و"مؤسس إمبراطورية أكاديمية – إعلامية"، أما بشارة فيؤكد بثقة ووضوح: "لقد زرعت الثورات بذور التغيير. وسوف يأتي التغيير، من خلال الإصلاحات، أو الثورة، أو الأزمة الاقتصادية، أو الحرب. وستكون البدائل جاهزة، وستكون هناك سذاجةٌ أقلّ. ما زلت أؤمن بانبعاث العالم العربي. وفريق الباحثين من جميع أنحاء العالم العربي الذين جمعتهم في الدوحة والذين يمارسون قوميةً عربية منفتحة وديمقراطية، هم أولى الثمار". ويقول واصفًا نفسه أخلاقيًا "أفعل ما عليّ فعله دون القلق بشأن النتيجة. هكذا يكون المرء كائنًا أخلاقيًا...لقد أسّست هذه الهيئات للتأثير في الرأي العام والدفاع عن القيَم الأصلية للثورات. ففي العالم العربي، لا يوجد الكثير من المثقفين. ولا يمكننا تحمل مغادرة المشهد عندما تحترق بلداننا".

 

اقرأ/ي أيضًا:

إعلام إسرائيل الحاقد على عزمي بشارة

اقتحام الوكالة الفرنسية العلني لحقل "البروباغندا".. سقطة المؤسسة بألف