الترا صوت - فريق التحرير
قدم المفكر العربي عزمي بشارة، اليوم الخميس، محاضرة افتتاحية للمؤتمر الذي عقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات في باريس، بالتعاون مع الكوليج دو فرانس بعنوان "ديمقراطايات في طور التشكل: البلدان العربية بوصفها مختبرًا لتحولات سياسية جديدة".
تطرقت مداخلة بشارة إلى عدد من المستويات التي تميز، من وجهة نظره، موجة الانتقال الديمقراطي عربيًا، في مقارنة مع تجارب انتقال ديمقراطي حول العالم
وتطرقت مداخلة بشارة إلى عدد من المستويات التي تميز، من وجهة نظره، موجة الانتقال الديمقراطي عربيًا، في مقارنة مع تجارب انتقال ديمقراطي حول العالم، شكلت أساسًا لحقل دراسات الانتقال الديمقراطي، خاصة في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية. ورأى بشارة، أن الموجة الثانية من الاحتجاجات العربية، تميزت بأن هناك نزعات إصلاحية وغير طائفية من أسفل، تمسكت بها القواعد الشعبية، في حين رفضتها النخب السياسية، وهو ما يجعلها ثورات ثقافية سياسية.
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة.. الحفر في الثورة المصرية (1- 2)
قدم بشارة في الجزء الأول من محاضرته الافتتاحية، موجزًا تاريخيًا حول نشوء موضوع الانتقال الديمقراطي، مؤكدًا أنه موضوع راهن سيرافق الباحثين المهتمين لسنوات طويلة. مشيرًا إلى أنه يجب على الباحثين المهتمين بموضوع الانتقال الديمقراطي في العالم العربي، أن يتوقعوا أنه مسار أو عملية ستستمر لعشرات السنوات.
انطلق العديد من الباحثين، في دراسة الانتقال الديمقراطي مما يسمى نظرية التحديث، وهي نظرية كما يوضح بشارة لم تدرس التحول إلى الديمقراطية تحديدًا، وإنما درست تحول المجتمع التقليدي إلى مجتمع حديث، كما هو حال العديد من العلوم الاجتماعية. وأكد أن الربط بين المجتمع الحديث أو عملية التحديث والديمقراطية نشأ لاحقًا في فترة الحرب الباردة في سياق نشوء تمييز بين النظام الديمقراطي والنظام السوفييتي. مستدركًا أن هناك دراسات أشارت إلى ربط الحداثة بالديمقراطية قبل سنوات.
خلال السبعينات والثمانينات حدثت تطورات هائلة تمثلت في نشوء عمليات انتقال ديمقراطي في دول عديدة، ما جعل بعض الباحثين يبدأون بدراسات واسعة لهذا التحول الديمقراطي، ركزت على نقد نظرية التحديث من منطق ديمقراطي، مؤكدة أن شعوب العالم الثالث لا تحتاج إلى توسع الطبقة الوسطى وتحسن شروط معينة، مثل التعليم والتمدين وغيرها، حتى يصبح لديها ديمقراطية.
إن الديمقراطية في أوروبا، كما يوضح صاحب "في المسألة العربية.. مقدمة لبيان ديمقراطي عربي" قامت تدريجية ونخبوية ثم توسعت، وما يطلبه منظرو التحديث من تمدين وتوسع في الطبقة الوسطى وتعليم لم تكن شروطًا للتحول الديمقراطي في أوروبا، وإنما نتيجة له. ويشير بشارة إلى أن تلك الشروط التي افترضتها نظرية التحديث، كحتمية لحدوث تحول ديمقراطي جاءت لتبرير تحالف الولايات المتحدة مع الديكتاتوريات في المنطقة، بحجة أن الشعوب غير جاهزة للديمقراطية.
بعد انتهاء الحرب الباردة، تبخرت هده الادعاءات وصارت الديمقراطية مسموحة للجميع في الدول الحليفة للولايات المتحدة. ويلاحظ المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أن منطق الحرب الباردة عينه انتهى في كل مكان في العالم، ما عدا الوطن العربي، حيث إن المعسكر الأمريكي حافظ على نفس المنطق في التعامل مع المنطقة العربية لأسباب عديدة. أولًا من أجل أمن إسرائيل، لاعتبارات تتعلق بأن الأكثر نجاعة لحماية حدود إسرائيل هو حماية الديكتاتوريات. ثانيًا النفط؛ رغم أنه يصبح أقل أهمية بالتدريج. وأخيرًا الإرهاب الناتج عن أمور عديدة من أهمها الاستبداد.
بعد الحرب العالمية نسفت دراسات الانتقال الديمقراطي فرضيات التحديث. مع ذلك، حسب بشارة، فإن افتراضات نظرية التحديث لا يمكن الاستغناء عنها لا من أجل إحداث انتقال ديمقراطي، ولكن في مسار ترسيخ الانتقال الديمقراطي والديمقراطية. إذ إنه وبعد أن يحصل الانتقال، يجب أن يعنى النظام الديمقراطي بهده الشروط، وأهمها التعليم.
مع الموجة الثانية من الانتقال الديمقراطي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، دخل عامل مهم لم تنتبه إليه الموجة الأولى من دراسة الانتقال الديمقراطي، وهو العامل الخارجي، في المعسكر الشيوعي تحديدًا، حيث لم يعد ممكنًا فهم الانتقال الديمقراطي بدون فهم الإصلاح الدي حدث من أعلى داخل الاتحاد السوفييتي.
مساهمة عربية في نظريات الانتقال الديمقراطي
في العالم العربي في 2011 انطلقت ثورات عفوية في الشارع تطالب عمومًا بمحاربة الفساد وتربطه في الاستبداد، وهي ميزة استمرت في الموجة الثانية. ويلفت بشارة مخاطبًا الباحثين الأوروبيين، إلى ضرورة الانتباه إلى مسألة الكرامة الإنسانية واحترام الجسد الإنساني وحرمته كعامل لفهم الغضب الشعبي وتفجره، حيث توجد أهمية رمزية لهذه العوامل لا يمكن تجاهلها لفهم انطلاق الاحتجاجات.
وفي حين كانت غالبية الإصلاحات في معظم تجارب التحول الديمقراطي، نتيجة لانشقاق النخب الحاكمة نفسها ولمبادرات إصلاحية، رافقتها أحيانًا احتجاجات، إذ لم يعرف التاريخ تقريبًا انتقالًا للديمقراطية بالثورة. فإن ميزة ما حدث عربيًا أن النخب لم تنشق نتيجة للإصلاحات، وهو ما دل في رأيه على بداية تحول الدول العربية إلى دول سلطانية لا تنشق فيها النخب، وإنما تصير مجرد حاشية للسلطان.
إن الميزة العربية الأهم، في سياق نشوء احتجاجات تطالب بالإصلاح، هي أنه ونتيجة لأن الإصلاحات لم تأت من أعلى جاءت الثورات العربية من تحت، منتجة لأول مرة ما يصطلح عليه بشارة بالثورات الإصلاحية. بمعنى أنها ثورات لا تريد أن تستولي على النظام مثل حالتي إيران وروسيا وغيرهما، وإنما هي ثورات تطالب بإسقاط النظام ولا تريد أن تسقطه. أي أنها ثورات إصلاحية لم تتضمن برنامجًا لاستلام السلطة؛ وخرجت لتطالب الأنظمة بالتغيير، لا أن تغيرها، وهو أحد الإسهامات العربية الأهم في تجارب الانتقال الديمقراطي.
فيما يتعلق بالإسهامات الأخرى، يلاحظ بشارة أن الثورات العربية - قبل الموجة الثانية التي يستشرف أنها ستؤول إلى تحول ديمقراطي إلا إن كان الجيش طامحًا بالحكم - تضمنت دولتين فقط حصل فيهما تحول ديمقراطي هما مصر وتونس. ورغم تشابههما فإن إحداهما نجحت بينما فشلت الأخرى.
يبين صاحب "في الثورة والقابلية للثورة" أن المقارنة بين حالتين متشابهتين مثل تونس، مفيدة جدًا في سياق فهم عوامل نجاح التحول الديمقراطي. وفي حين بدا له أول الأمر أن نظرية التحديث قد تكون على حق هناك، فإن الأرقام تشير إلى أن معدل الدخل ونسب التعليم متشابهة، وهو ما يبطل تفسير النظرية عينها. يستدرك بشارة هنا أن ثمة عوامل ساهمت في تحديد مساري التحول الديمقراطي الناجح والفاشل في تونس ومصر؛ على النحول التالي:
- أولًا: ثقافة النخب السياسية، وهو عنصر مهم في الانتقال الديمقراطي. حيث كانت النخب السياسية التونسية قادرة على المساومة، وكان بعض العناصر من نخب النظام القديم مستعدًا للتفاوض من أجل إنتاج نظام ديمقراطي. وهو حسبه يشبه ما حصل في إسبانيا، باستثناء أن الإطاحة بالرئيس لم تكن من أعلى، ولكن بثورات من أدنى وهي ميزة عربية. كما يشير المفكر العربي إلى المرونة التي أبدتها الحركة الإسلامية في تونس، خاصة بالمساومة مع التيار البورقيبي الذي حيده بن علي. بينما كان العلمانيون الراديكاليون عامل إعاقة، وفضلوا الانقلاب العسكري على توافق يؤدي إلى الديمقراطية في مصر. ويخلتف بشارة هنا مع نظرية التحديث في الحديث عن الثقافة السياسية للنخب وليس للشعب. حيث إن ثقافة الشعوب تصبح ديمقراطية تحت النظام الديمقراطي، أي أنها نتيجة لها وليست سببًا.
- ثانيا: الطموح السياسي للجيش. ففي البلدين، رفض الجيش أوامر النظام في قمع المحتجين. لكن الفرق أن الجيش المصري كان يمتلك طموحًا سياسيًا، وهو ما لم تنتبه له دراسات الانتقال الديمقراطي كأحد معيقات الانتقال. ويوضح عزمي بشارة أنها إضافة عربية فريدة، فلا يمكن أن يحدث الانتقال الديمقراطي في حالة وجود طموح سياسي لدى الجيش.
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة.. تعرية ديمقراطية إسرائيل المتناقضة
- ثالثًا: العامل الخارجي. وهو عامل يصبح أكثر أهمية إن كانت الدولة مهمة جيوستراتيجيًا. في حالة تونس الناجحة، فإن الدولة ليست على حدود إسرائيل ولا يوجد فيها نفط، ما قلل من أهمية التحول الديمقراطي فيها بالنسبة للقوى الإقليمية. أما في مصر فإن الديمقراطية ستهدد بعض دول الخليج، خاصة السعودية. والإمارات رغم أنه لا يوجد فيها خطر ديمقراطي فهي دولة ريعية صغيرة، لكن هناك أيدولوجيا مناهضة للتغيير تحكم سياساتها.
عزمي بشارة: ما يطلبه منظرو التحديث من تمدين وتوسع في الطبقة الوسطى وتعليم لم تكن شروطًا للتحول الديمقراطي في أوروبا، وإنما نتيجة له
يستطرد بشارة موضحًا أن العامل الأمريكي كان حاسمًا ومهمًا. كما أن ما حصل في حالة مصر، هو أن الاستقطاب بين القوى الإسلامية والعلمانية، وإصرار الإخوان المسلمين أن يحكمو بأغلبية في دولة عميقة، ساهم في أن يتم استبدال الاستقطاب بين الديمقراطيين والمعادين للديمقراطية، باستقطاب آخر بين العلمانيين والإسلاميين، أحال إلى تدخل الجيش في نهاية المطاف.
من الجدير بالإشارة، أن مؤتمر "ديمقراطيات في طور التشكل: البلدان العربية بوصفها مختبرًا لتحولات سياسية جديدة" هو المؤتمر السنوي الثاني للمركز العربي في باريس، يعُقد بالتعاون مع الكوليج دو فرانس، ويتناول معيقات الانتقال الديمقراطي عربيًا، معتمدًا على معالجات أكاديمية، بمشاركة باحثين من دول عربية وغربية، ينتمون إلى اختصاصات علمية متنوعة.
اقرأ/ي أيَضًا:
عزمي بشارة مشخصًا حال الخيار الديمقراطي العربي
عزمي بشارة: "الجيش والسياسة" مدخلًا لفهم الدولة الوطنية العربية