31-مارس-2019

يطرح عزمي بشارة أولوية الموضوع على المنهج (المركز العربي للأبحاث)

يلاحظ المتصفّح لكتب المفكر العربي، ومدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدكتور عزمي بشارة صرامة منهجية، وذلك بالرغم من عدد الكتب الموسوعية التي أصدرها في الآونة الأخيرة، على وجه الخصوص كتابيْ "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" بأجزائه الثلاثة، وكتاب "الطائفة الطائفية، الطوائف المتخيّلة" الصادر في العام 2018. وهذان الكتابان يختصران بشكل كبير، إلى جانب كتاب "المجتمع المدني: دراسة نقدية" أساليب بشارة المنهجية، في أعماله العلميّة.

يرى بشارة في أن النظرة للاستشراق على أنه بالضرورة علاقات استعمارية هي نظرة مبالغ فيها، كما أن اعتبار المعرفة الاستعمارية كلها معرفة خاطئة هي وجهة نظر غير دقيقة

لعلّها المرّة الأولى التي ينثر فيها عزمي بشارة كنانته المنهجية، ويجعل المتابع على قُرب من الكيفية التي يُنجز بها أبحاثه، وكيف يبني خياراته المنهجية والنظرية، وذلك في افتتاح أعمال اليوم الثاني من مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية، الذي ينظمه المركز العربي بشكل دوري كل سنتين، حيث قدّم بشارة محاضرة بعنوان "أولوية الفهم على المنهج" لمدّة ساعة كاملة.

اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة.. تعرية ديمقراطية إسرائيل المتناقضة

 يمكن تقسيم المحاضرة التي ألقاها بشارة إلى محورين: المحور الأول عبارة عن مكاشفة منهجية على النمط الديكارتي، بيّن فيه بشارة تجربته الفكرية والبحثية وتعامله مع مسألة المنهج. وبعبارة أخرى كيف يُقارب بشارة مواضيعه؟ أما المحور الثاني فكان خوضًا في بعض المناقشات الفلسفية حول المنهج وحول العلم بشكل عام.

البداية مع المفهوم

لاقتناص زاوية نظر جديدة، تكون البداية بالمفهوم أو المصطلح أفضل. وعزمي بشارة بسبب خلفيته الفلسفية يبدأ في أبحاثه دائمًا بالمفاهيم والمصطلحات، فيُخضعها للتحليل الفيلولوجي، ويؤرّخ لها، وهو في تلك العملية يضرب عصفورين بحجر واحد، فمن ناحية يقوم بالتأريخ للأفكار والمفاهيم، ومن ناحية ثانية يقوم بمراجعة أهمّ ما كُتب حولها، أي مراجعة الأدبيات والدراسات السابقة في الاصطلاح المنهجي، كما يختبر مدى صلوحيتها لمقاربة الظاهرة قيد الدراسة.

يمكن إيراد مثالًا على ذلك ظاهرة الطائفية، إذ وجد بشارة أن مقاربة الطائفية بمفاهيم ماكس فيبر عن الطائفة لا تضيف أي قيمة تفسيرية لما تعنيه الطائفية السياسية، كما لا يُعبّر مفهوم الجماعة عن حقيقة الطائفة، فالعلاقات الطائفية ليست علاقات مباشرة وجهًا لوجه. كما أنها، أي الطائفة، ليست مجتمعًا قائمًا بذاته على نوع من الفردية وعمليات التبادل. ليخلص بشارة إلى استنتاج غاية في الأهمية في تحديد الطائفة، بأنّها "جماعة متخيّلة تُنتجها الطائفية". بمعنى آخر فإنّ الطائفية السياسية هي التي أنتجت لنا الطوائف وليس العكس. وهذا هو مختصر النظرية التي يُقدّمها بشارة عن الطائفية في المجتمعات العربية.

ما هو المنهج؟

يجهد الكثير من الباحثين والطلبة في تحديد المنهج الذي يستندون إليه في تحليل الظواهر التي يتناولونها، فيقعون جرّاء ذلك في منزلق المصادرة على الموضوع. وبدل أن يبدأوا البحث يقومون بإنهائه، عبر إجهاد أنفسهم بتفصيل الظاهرة المدروسة على مقاس منهج معيّن، غالبا ما يكتشفون أنّه لا يُقدّم الإضافة المنشودة، بل إنه يسلبهم القدرة على الاستكشاف، وهذه هي المفارقة.

لذلك كان عزمي بشارة صريحًا بقوله إنه لا يدري ما هو المنهج. ولا يدري أيضًا ما هو المنهج الذي يستخدمه، ولا ما هي الفرضية التي يبدأ منها. فالمنهج حسب بشارة يتبيّن خلال التفاعل مع موضوع معيّن، ولذلك "لا يوجد منهج لاستكشاف المنهج". والكثير من التسميات المتداولة في الأكاديميا العربية حول المناهج هي تسميات خاطئة أو غير دقيقة، فلا وجود لشيء اسمه المنهج الوصفي التحليلي، ولا يوجد منهج كمي أو منهج كيفي، وإنما هذه أدوات وطرائق ومهارات ذهنية وعقلية، يتمتع بها أي باحث، لكنها ليست منهجًا. وإنما هي أدوات تحتاجها المناهج، وهي أدوات عابرة للتخصصات.

لا يتوقف عزمي بشارة بشأن المنهج عند المقاربة الأولية، بل يقوم بتحديد رصين لماهية المنهج فيقول: "المنهج هو مقاربة تحليلية، ناتجة عن نظرية ما، حول ظاهرة اجتماعية أو مجموعة ظواهر"، أي أن المناهج مترتبة دائما عن نظريات، فنظرية التحديث أنتجت منهجًا، والمادية التاريخية أنتجت هي الأخرى منهجًا، واللسانيات الوظيفية أنتجت مناهج، وهكذا دواليك. فهل يعني ذلك أن المنهج يأتي دائما متأخّرًا؟

سجالات نقدية ومنهجية حول الاستشراق والمعرفة الكولونيالية

يمثّل الاستشراق عقدة للمعرفة العربية، فثمّة من يرفض الاستشراق جملة وتفصيلًا بدعوى كونه مشروعًا استعماريًا، وعلى الطرف الآخر يوجد متعصّبون للاستشراق. لكن عزمي بشارة ينبه إلى طيف ثالث يمارس نمطًا جديدًا من الاستشراق وهو يدّعي نقد الاستشراق، "فعلى الأقل المستشرقون القدامى كانوا يقرؤون لغتنا، لكنّ المستشرقين الجدد لا يعرفون لغتنا ويجدون عقدة من القراءة لنا، بل ويسعون للهيمنة علينا، وأصبحوا يشكّلون جزءًا من الأكاديميا الغربيّة".

يرى بشارة في هذا السياق أن النظرة للاستشراق على أنه بالضرورة علاقات استعمارية هي نظرة مبالغ فيها، كما أن اعتبار المعرفة الاستعمارية كلها معرفة خاطئة هي وجهة نظر غير دقيقة. فهناك جوانب علمية في المعرفة الاستشراقية. لا يعني ذلك، بحال من الأحوال، أن بشارة يُبرئ الاستشراق، فكثير من المعرفة الاستشراقية هي معرفة انتقائية قائمة على فرضيات ومسلّمات هيمنية خاطئة، ونقد الاستشراق يستهدف هذا الجانب غير العلمي في الاستشراق، وإلاّ لم يكن نقدا علميًّا وعقلانيًا. فلا ينبغي، تحت أي مبرّر كان، التخلّي عن العقلانية والعلم في نقد الاستشراق، وإلا يكون الوقوع، حسب بشارة، في منزلق ما بعد العقلانية، بتبني اللاعقلانية.

نقاش فلسفي على هامش المنهج

ثمّة مطبّات ومنزلقات تقودنا إليها بعض النقاشات الفلسفية حول المنهج العلمي، مثل العلاقة بين الذات والموضوع، وهل تنطوي طبيعة العالم على منطق علمي معيّن؟ وهل يستهدف العالَم غاية بعينها؟ وهل يُعتبر العلم معنيًّا بكشفها؟ وهل العلم سيطرة؟ وهل لكل ذلك أثر مباشر على المنهج العلمي؟

يقول المفكر العربي إنه عندما يبدأ في بحث موضوع معين، فإنه لا يفكر كثيرًا في ذاته بوصفها ذاتًا، وفي الموضوع بوصفه موضوعًا، لأنه يعتبر أن هذا الأمر معطى مفروغ منه، فالذات والموضوع هما طرفا معادلة الممارسة المعرفية، وليسا قطبين متقابلين في تنظير سابق عليهما.

يخلص بشارة في ثنائية الذات والموضوع إلى أن الفصل بينهما مسلمة إبستمولوجية. أما فيما يتعلّق بمحاولة إيجاد رابط نسقي بين بنية الوجود، والعملية المعرفية والقيم، فإن ذلك المجهود، ليس مجهودًا علميًا وليس وظيفة العلم، ولكنه قد يكون وظيفة الميتافيزيقا أو الأيديولوجيا.

هل العلم سيطرة وهيمنة؟

"منهج البحث العلمي يكون بالمشاركة وليس بالسيطرة"؛ مقولة مشوِّشة لغدامر، جعلت الكثيرين ينخرطون في نقد غير علمي للعلم، حسب بشارة، استنادًا إلى فهم خاطئ لآدورنو وهوركهايمر في نقدهما للتنوير، منتصف القرن الماضي، في ظلّ الحكم النازي لألمانيا.

اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة.. الحفر في الثورة المصرية (1- 2)

حيث يرى بشارة أن نقد هوركهايمر وآدورنو يمكن اختزاله في بندين رئيسيين: الأول أن العلم يستخدم العقل كوسيلة ويحيّد الغايات، وبالتالي يسهل استخدامه كوسيلة لمن يريد. والثاني: أنه يجب ألا نتجاهل أن نفس الوسائل العلمية المستخدمة في العلوم التي تمكن المجتمعات الحديثة من بناء جهاز القمع والرقابة ومعسكرات الاعتقال والاستعمار. إلخ. ولذلك يدعو هؤلاء لإدخال الغايات ومقاصد البشر السامية في العملية العلمية، أي إدخال ما يسميه هيغل بالعقل الذي يحوي العلم إضافة إلى الغايات.

يبين عزمي بشارة أنه عندما يبدأ في بحث موضوع معين، فإنه لا يفكر كثيرًا في ذاته بوصفها ذاتًا، وفي الموضوع بوصفه موضوعًا، لأنه يعتبر أن هذا الأمر معطى مفروغ منه

يرى عزمي بشارة يرى أن هذا النقد نقد علمي للعلم، وليس نقدًا معاديًا للعلم. فهو نقد يسعى لتنقية العلم من الشوائب. ونفس الأمر ينطبق على نقد الاستشراق، فما يُناقشه نقّاد الاستشراق هو جوانبه غير العلمية، وفرضياته الهيمنية بناء على فهم مغلوط، وإرادة مبيّتة للسيطرة. ولذلك فالعلم يقوم بتصحيح مساره، والعقلانية تصحح نفسها بنفسها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عزمي بشارة.. في تشريح الإرهاب

مصادرة كتب عزمي بشارة في معرض الشارقة