24-ديسمبر-2020

لوحة لـ محمد بزركي/ إيران

في كتابه "عزاءات الفلسفة"، يذهب آلان دو بوتون في مسلك آخر، فبدلًا أن يغني معرفتنا بأشكال أخرى من العزاءات القائمة على مبدأ الإيمان الأرواحي، يمضي بنا إلى أنواع أخرى من العزاءات التي تنهض على العقل وحده، أو على نحو أدق: على التأمل العقلي الخالص المعروف بالتأمل الفلسفي.

العزاء وراء رضا الفيلسوف سقراط في تقبل قرار حكم محكمة قضت عليه بالموت، صدف أن كان جل محلفوها من أصحاب التفكير اللاعقلاني، الذي كان يصارع ضده

العزاء وراء رضا الفيلسوف سقراط في تقبل قرار حكم محكمة قضت عليه بالموت، صدف أن كان جل محلفوها من أصحاب التفكير اللاعقلاني، الذي كان يصارع ضده بكل جوارحه، لم يكمن في وعد الخلود الذي بشرت به أسطورة الخلق اليونانية المسماة "هيزيود"، بل في وعد دنيوي مغاير لذلك تمامًا. إنه في ذلك الكائن البسيط المسمى إنسانًا، أو على نحو أدق في عقله الذي صار بمقدوره أن يكون ضامنا للحقيقة أو لصوابية أفعالنا، في مساعدتنا على التمييز بين الخطأ والصواب البشريين.

اقرأ/ي أيضًا: مقاومة الموت

في صوابية الفكرة التي تقول بلامنطقية تخلي الإنسان عن حياته، في سبيل فكرة أو معتقد يجمع جميع من حوله على خطئه، أجاب سقراط الفاني بنعم يقينية، ذلك أنه لم يفعل شيئًا طيلة حياته سوى العمل على إثبات صدقية تلك القضية، قضية أن الفصل بين صواب معتقد ما من عدمه لا ينهض إلا على قواعد المنطق، الموجودة عند جميع الناس بغض النظر عن مستواهم المعرفي أو الاجتماعي. من أجل ذلك قبل الرجل على نفسه أن يخضع لحكم مجموعة من الناس، الذين نادرًا ما أحسنوا استخدام ملكاتهم العقلية على النحو الجدلي الذي كان يدعو إليه.

أيعقل أنه كان يهذي ويقامر بحياته، يسلم نفسه لقواعد عقلية عند أناس، لا قواعد منطقية تحكم سلوكهم عند اضطرارهم لاتخاذ حكم ما تجاه قضية ما، يصرون على أن الحقيقة أو الصواب في صف كل جماعة أو تجمع بشريين، حتى لو كان تجمعًا من قاصري العقل، وعلى أن الخطأ في صف الواحد، مهما بلغ من الفطنة العقلية وحسن التدبير. أم أنه كان يعلمنا وعلى حسابه الخاص، ضرورة العيش وفق قواعد المنطق العقلي، إذا ما كنا راغبين بالعيش بسعادة في هذه الدنيا الفانية. أن لا نصدق على سبيل المثال، أن الشجاعة تكمن في الثبات في أرض المعركة، مع ما قد يصاحبها من إبادة للجماعة المدافعة، وأن نتهدي إلى أن الشجاعة قد تكمن في التراجع من أرض المعركة، ومن ثم الهجوم على الأعداء مرة أخرى. أن يتوصل أعضاء محلفي محكمة ما إلى أن راحة ضميرهم الشخصي، تكمن في التوصل إلى حكم صائب، استنادًا إلى القواعد التي تفرضها عليهم عقولهم، لا إلى مجموعة الأقاويل والخطب الحماسية التي قد تلهب مشاعرهم.

على العكس من الروح التشاؤمية التي بشر بها شوبنهاور يمضي نتيشه قِبَلَه لتجاوز، تلك الروح التي تصر على إقناعنا بالتسليم بعجز قدرتنا أمام تحديات الواقع، فيما لو أردنا الظفر بالسعادة، ذلك أن السعادة وفق الوصفة الشبنهورية لا تتحقق بالمكابدة والصبر وتجرع الألم، بل عبر الإقرار بالفشل والرضا التام عما قدر لقدرتنا المحدودة أن تحصله.

يأتي نيتشه ليتصدى للفشل، ليجعل منه عزاء، دربًا على طريق سعينا نحو السمو، أو السعادة

على الضد من ذلك كله يأتي نيتشه ليتصدى للفشل، ليجعل منه عزاء، دربًا على طريق سعينا نحو السمو، أو السعادة. إنه لا يكتفي بسرد عشرات الحكايا عن الفشل التي جعلت من أصحابها أناس مبدعين على نحو خلاق، من ستاندل صاحب رواية الأحمر والأسود الذي عاين الفشل مرارًا وتكرارًا حتى توصله إلى تحفته الأدبية تلك، إلى مونتين صاحب كتاب الاعترافات الذي عانى الأمرين حتى توصل إلى مثل هذه الخلاصات الفلسفية المذهلة، مروا بتجربته الشخصية، من إصراره على تسلق أشد المنحدرات الجبلية على سفوح جبل الألب رغم اعتلال صحته، ثم إلى ربط نفسه ببرنامج كتابي صارم يبدأ من الخامسة صباحًا ولا ينتهي حتى الظهيرة. لو قدر للمرء أن يختصر فلسفة الرجل بعبارة واحدة لما اختار أفضل من عبارة "مواجهة الفشل، تجاوزه" أو على نحو مخاتل "العيش وفق منطق الإنسان الأعلى"، ذلك الكائن الذي لا يكف عن تجاوز ذاته في كل مرة يقدر له أن يسقط فيها أو يفشل.

اقرأ/ي أيضًا: باتريك زوسكيند: عن الحب والموت

"أرسل لي قِدرًا من الجبنة كي أقيم وليمة حين أرغب بذلك"، يعود هذا القول لأبيقور، صاحب مدرسة اللذة كمبدأ في تحقيق السعادة، تلك المدرسة التي استمر إشعاعها الفلسفي ما يقارب الخمسمئة عام. لا يتحدث أبيقور في المثال السابق ليرشدنا إلى أفضل الطرق الممكنة لإقامة مائدة متقشفة، بل إلى المبدأ الجوهري الذي يجعل من المائدة مائدة، ومن الطعام مدخلًا للسعادة، ألا وهو وجود الأصدقاء على المائدة.

الأصدقاء وفق تصور أبيقور هم مصدر السعادة الرئيسي  لنا، فحيث يكونون نكون، وحيث لا يوجدون لا نوجد، إنهم الوحيدون القادرون على تفهم أوضاعنا بغض النظر عن الأخطاء التي قد نتركبها بحق أنفسنا أو بحقهم، ذلك أن حبهم لنا حب غير معلق على شرط، يشبه في طبيعته حب الأم لطفلها، لذا لا غرو أن يكونوا هم العزاء الوحيد في حياتنا، لا المائدة ولا المال الذي قد يمكننا من الحصول على كل ما نرغب أو نريد.

هل ثمة عزاء للإحباط في أن يتوصل الإنسان إلى مبرر مقنع، وراء ذهاب جميع رغباته أو أمنياته على نحو مخالف لجميع توقعاته؟ أن يكون قادرًا على إيجاد مبرر يعينه على تحمل المآسي في الوقت الذي كان يتطلع فيه لتحقيق رغباته؟ أن يصمد أمام خبر خسارته لجميع أمواله المستثمرة في الوقت، الذي كان يخطط فيه لشراء بيت في الريف الفرنسي؟ أن يتحمل خبر قرار إعدامه أو رميه في السجن، في الوقت الذي كان يتطلع للحصول على منصب سياسي راق؟ أن تكون لديه القدرة لتجرع مرارة حرمانه من متعة الذهاب إلى شواطئ جزر الكناري الإسبانية بعد فترة عمل مضنية، في الوقت الذي يتصل فيه رب عمله ليخبره بضروه إلغاء برنامجه الترفيهي ذاك؟

الأصدقاء، وفق تصور أبيقور، هم مصدر السعادة الرئيسي  لنا، فحيث يكونون نكون، وحيث لا يوجدون لا نوجد

على كل ذلك أجاب الفليسوف الرواقي سينيكا بنعم قوية، ذلك أننا نرفض الاعتراف بالطبيعة التي تكتنف عملية الإحباط ذاتها، الكامنه في رغبتنا المتفائلة بتحقيق ما نرغب، دون أن ننتبه لحقيقة أن الظروف التي نعول عليها من أجل تحقيق رغباتنا تلك تقع خارج سيطرتنا بالكامل. فلماذا نغضب عندما نفقد ابنًا أو صديقًا لنا في حادثة ما، مع معرفتنا المسبقة بإمكانية تعرضه للموت. "ما المنفعة من قلب الطاولة، أو تهميش الكؤوس، إذا تأخر العشاء عشرة دقائق؟"، يتساءل سينيكا ما دام ليس باستطاعتنا التحكم بالظروف المحيطة بنا، أليس الأجدر بنا تحمل مشقة ذلك الانتظار عبر الصبر والمجاهدة، بدلًا من الدخول في نوبات غضب عارمة؟

اقرأ/ي أيضًا: الوجود الإنساني وسؤال: لماذا نحن هنا؟

أمن أجل هذا عمل الرجل على تهدئة مخاوف وأحزان أصدقائه، عندما بلغه قرار الطاغية الروماني نيرون بتدبر مقتل نفسه بنفسه، هو الذي أمضى خمسًا من سنين حياته وهو يهذب بهذا الطاغية الذي لم تنفع معه كل دروس الحكمة الرواقية، التي كانت تهدف لترويض المرء أمام نوبات الغضب والاحباط. فلم يجد بدًا من الامتثال لقرار الطاغية المجنون، عبر القيام بفصد شرايين يديه وقدميه بكل رباطة جأش، لإيمانه باستحالة رد المرء على ضربات القدر التي قد توجه لصدره، ما دامت تلك الضربات أمرًا خارج قدرته على التحكم والفعل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نيتشه.. فلسفة التخفّي

كيف يُمكن للفن أن يُزور القبيح؟