06-أكتوبر-2019

من العرض

بموسيقى من الأداء الحي لصوت بشري، وآلة القبائل الإسترالية النفخية ديدجيريدو، مع آلة الأورغن وميكسر يتحكم بالكتلة الصوتية كاملةً ويوجهها إلى الجمهور، لتظهر جمل لحنية بإيقاعات طويلة وممتدة لكن معالجة بطريقة تكرر الأصوات بطريقة الصدى الطويل. هذا الأسلوب الموسيقي الغاية منه الإيحاء بعالم داخلي، باطني، قادر على الإمتداد لاحقًا نحو المساحات، هو أول ما يقابل المتلقي عند دخوله إلى العرض المسرحي "البرزخ" لفرقة "جذري تعبيري" الفنية التي تضم فنانين مستقلين من كل من سوريا ولبنان، في مسرح بالاس- الحمرا في بيروت.

المشاعر والأفكار والأحلام التي تنتابنا لا يمكن أن يشعرها إلا الشخص الذي اختبرها

على الخشبة، العوالم البصرية إيكزوتيكية أيضًا، استخدام مكثف للإضاءة بألوان عديدة الأزرق، الأحمر، البنفسجي، خيمة معلقة في الهواء، مع أربعة مؤديين على المسرح، منهم مؤدية عند أعلى المسرح ترتدي قناع، مؤدية أخرى ترتدي ريش بألوان زاهية تقوم بألعاب بهلوانية بحلقات بلاستكية منارة بالإضاءة. (إضاءة: مارغريتا شمالي).

اقرأ/ي أيضًا: تآكل المسرح السوداني.. مسرحية "ملف سري" في مواجهة السُلطة

إلى هذه العوالم الموسيقية والبصرية يدخل المشاهد إلى المسرح، ومن بعده تدخل الشخصية الرئيسية ياسين (أداء ياسين بخاري) من بين الجمهور متجهًا إلى الخشبة. يحاول ياسين أن يستكشف المكان والصوت، وبينما يبدو أنه وصل إلى مخيم (كامب) حيث مجموعة من البهلوانيين يقيمون ويؤدون تمارينهم، سنكتشف لاحقًا أن صعوده على الخشبة يعني دخوله في عالمه الداخلي، بواطنه، ذهنه الذاتي.

كُتب في البيان الخاص بالعرض: "العرض هو سردة جوّا راس مؤدّي، حيث كلّ شخصيّة في المسرحيّة تمثّل عنصرًا من دماغنا في مكان التقاء النفسي الفيزيولوجي، هناك حيث يتم تحديد جذور السّلوك البشري". إذًا كل شخصية من الشخصيات الأربع على المسرح تؤدي دورًا في الترميز إلى مكونات العالم الذهني، النفسي، الفيزيولوجي. على هذا الأساس ستكون العلاقة بين ياسين وبين كل شخصية على المسرح مبنية على ما تمثله في داخل الذهن. لكل شخصية مونولوج داخلي في نهاية المسرحية يظهر المكونات الذهنية، والنفسية، والفيزيولوجية.

تقول كريستيل حرب: "شخصيتي تمثل الأدرينالين، هي التي تدفع ياسين إلى الوثوق بنفسه، تدعمه بالقوة لكي يتعامل مع دواخله ومع باقي أجزاء دماغه، هي تدفع ياسين دائمًا للاختبار والتجريب"، ذلك ما نلمسه عند اللقاء الأول بين كريستيل وياسين. هي تدافع عن متعة اللعب، اللعب بالهواء.. بالماء.. بالتراب، على الجميع أن يعلب برأي هذا الجزء من المكون الذهني. تُبنى فلسفتها على أن الإنسان يتكون من تجاربه الذاتية – الاجتماعية، وبالتالي يجب عليه التجريب، والاستمتاع بالتجربة، بعبارة موجهة للجمهور تقول: "السعادة قرار".

تبدو شخصية دينا حمدان معاكسة لسابقتها، هي تمثل الحرص والحذر، تجسّد صوت غريزة البقاء، وتحتاج دومًا إلى التنظيم. تجمع الطابات وترتب المكان بأمان كأنها "صوت الأم في الذهن الداخلي"، على حسب تعبير المخرج. في أحد أحلام يقظتها تتمنى أن تمتلك ما يمكنها من البقاء، الكثير من الطعام، الكثير من الخبر، والكثير من الأسلحة. تقول: "إن تنظيف المكان هو تنظيم للأفكار". أما شخصية مرح آل فيصفها المخرج هاساغا بأنها تمثل جزء المستقبلات الحسية من الدماغ، هي دائمًا في حالة انتظار وترقب، تصعد إلى أعلى المسرح لترصد المستقبل، تنبه أعضاء المجموعة لقدوم الجديد، إنها دومًا على تواصل مع غير الموجود لكنه المنتظر، لا تؤمن هذه الشخصية بإمكانية التواصل في نقل التجارب من ذات إلى أخرى. تقول هذه الشخصية في المونولوج الخاص بها: "إن المشاعر، الأفكار، والأحلام التي تنتابنا لا يمكن أن يشعرها إلا الشخص الذي اختبرها. الواقع ليس واقعًا، بل هو إسقاط. والوجود يتطلب موجب، والموجب ليس إلا تفاعل بين الماضي والمستقبل، تأرجح بين ما كان وبين ما سيكون".

مسرحية البرزخ إعادة تصوير لفعاليات تحدث داخل الدماغ، فالخشبة تمثيل لمساحة داخل الدماغ

الشخصية الرابعة بارو (أداء باراماز يبريميان) تمثل اللاوعي حسب تعبير المخرج هاساغا، إنها نقيض شخصية ياسين الذي يمثل الوعي، ولذلك هناك مشهد يظهرهما يتصادمان بشكل جسدي. برأي المخرج يبقى اللاوعي في الخلف، لا يظهر حقيقته أنه بالفعل من يدير العمليات، تقول شخصية بارو: "الحياة متل السباحة، نجمة بالسما أنت، الخوف يبلبك، رح تعشق كوكب وتصير قمر"، هي صور قادمة من اللاوعي في علاقته مع الموجودات، كما يقول في المونولوج الأخير المخصص له: "نحن مصنوعون من غبار النجوم. وبالنظر إلى عدد المجرات، حجم وعمر الكون، يتضح لنا كم نحن بلا معنى في هذا الوجود".

اقرأ/ي أيضًا: "في العتمة المبهرة"... عرض تفاعلي في ذكرى مجزرة الكيماوي

يقول الممثل ياسين البخاري عن دوره: "كل ما يجري هو في داخل ذهن ياسين، صوت الحذر، صوت الدعوة إلى اللعب، العرض يحاول أن يجسد الإنسان من الداخل".

حينما تدخل الشخصية ياسين إلى عالمها الداخلي مع بداية المسرحية، وتقابل هذه الأجزاء المختلفة من الذهن والنفس، تحمل معها أسئلتها، الشخصية تكرر أسئلة: "من أنا؟ عم حاول فك كل هذه الرموز، وهذه الألوان"، تحاول المجموعة أن تهدأ من قلقه الوجودي، بمقولات من قبيل: "استمتع باللحظة، اكتشف باللعب، المعجزات يلي بدك توصلها هي عمل داخلي"، أحيانًا ينساق ياسين إلى هذه المقولات، لكنه يعود ليستعيد مخاوفه وقلقه. تنتهي المسرحية وهو يقف في حالة تردد بين الانغماس بأكثر في عوالمه الداخلية، أو العودة إلى الخارج حيث الأسئلة والمخاوف والقلق، تختم المسرحية بإعتام والشخصية في التردد بين الحالين.

يقول كاتب المسرحية نور شماع: "المسرحية إعادة تصوير لفعاليات تحدث داخل الدماغ، الخشبة تمثيل لمساحة داخل الدماغ، والعرض يبحث كيف تتعامل هذه الأجزاء من الذهن مع بعضها البعض"، وقد وضّح أنه قابل مختصين في مجالات الذهن والأعصاب، علم التطوير الجيني، علم الفضاء والكيمياء، وعالم اجتماع، للتوصل معهم إلى كتابة النص، وتمحورت حوارته معهم حول: "كيف يمكننا أن ننقل تجربة داخلية من إنسان إلى إنسان آخر؟ وكيف يمكننا أن نؤكّد أنّ كلّ واحد منّا يعيش حقيقة مختلفة؟".

أما مخرج العرض هاساغا فقد أكّد على ضرورة نقل وجهة النظر العلمية من خلال وسيط كالمسرح، لتصل العلوم إلى الجمهور، كما أكّد على ضرورة إدخال الرؤى العلمية في العروض الفنية. وعند سؤالنا له عن خياره الإخراجي بتقديم بهلوانيات السيرك كعالم فني على المسرح، وضح خياره: "الأداء البهلواني دائمًا في حالة البناء، وهو يراكم عبر الحركة فعلًا وراء الآخر، وهذا يشبه الأداءات المسرحية ومناسب لها. كما أن الكثير من جماليات عروض السيرك تشبه العالم الداخلي الباطني في الذهن، الأحلام، والهلوسات".

كيف يمكننا أن ننقل تجربة داخلية من إنسان إلى إنسان آخر؟ وكيف يمكننا أن نؤكّد أنّ كلّ واحد منّا يعيش حقيقة مختلفة؟

أما المؤدي المختص في عروض السيرك باراماز يبريميان فيقول: "هي المرة الأولى التي تسنح لنا الفرصة بتقديم ألعاب السيرك على المسرح. غالبًا ما يكون التصوير لأداءات فردية، لكن هذه المرة صعدت عوالمنا كاملة على المسرح. وهي فرصة لإختبارها بالتفاعل مع الجمهور"، أما عن ميزة التجربة المسرحية عن العروض البهلوانية فهو يقول: "ميزة التجربة المسرحية هي كيف يمكن تطوير تعابير الوجه، وحركة الجسد مع تقنيات وأداءات السيرك".

اقرأ/ي أيضًا: إعزيزة.. تمائم أرض السواد

حاول عرض "برزخ" أن يقدم رحلة شخصية إلى دواخلها الذهنية والنفسية، لكنه لم يختر بعناية الحكاية القادرة على تجسيد هذه الفكرة. كما أنه حاول أن يجعل من الشخصيات المسرحية ممثلةً لأجزاء من الذهن والنفس، لكنه افتقر إلى إبتكار الأحداث، الأفعال، الحكايات، والمونولوجات المناسبة لهذه الشخصيات، لكي ترتسم كل شخصية بكونها مكون ذهني ونفسي واضح المعالم عند المتلقي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مسرح مصر.. "أي كفتة في أي بتنجان"!

هل ثمة "مسرح احتجاجي" عربي؟