تطرح في تونس بمناسبة، أو من دونها، مسألة الاغتيالات السياسية التي طالت قامتين من أبرز قامات السياسة في تونس، المناضل اليساري شكري بالعيد والقومي محمد البراهمي، فكل تفصيل جديد في القضية يعيد لها زخمها رغم مرور بعض الوقت على الحادثتين، خاصة بعد إيقاف رئيس فرقة حماية الطائرات في مطار قرطاج مؤخرًا.
ربما يترجم فيلم "رحيل" فصولًا من الحياة السياسية في تونس بعد الثورة
ولأن لكلّ منا طريقته في التأريخ والمعالجة، يطالعنا الصحفي التونسي عدنان الشواشي بفيلمه التسجيلي الأول الذي اختار له "رحيل" كعنوان، عنوان يترجم ربما فصولًا من الحياة السياسية في تونس في الفترة الممتدة بين شهر تموز/يوليو 2013 وما بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة التي حصلت في تونس في تشرين الأول/أكتوبر 2014، خاصة رحيل النائب عن الجبهة الشعبية (تحالف أحزاب يسارية وقومية) محمد البراهمي، أو كما يلقب الحاج البراهمي.
يتكون الفيلم من مجموعة من الريبورتاجات التي قام بها الصحفي وهو الذي يراسل تلفزيونًا أجنبيًا، على امتداد الفترة المذكورة آنفًا، تنطلق أحداثه باغتيال أحد أبرز رموز المعارضة التونسية الشهيد محمد البراهمي الذي طالته رصاصات غادرة في شهر رمضان، في الخامس والعشرين من شهر تموز/ يوليو، تاريخ احتفال تونس بعيد استقلالها عن المستعمر الفرنسي، وأمام منزله بأيد مجموعة سلفية لاذت بالفرار.
ينطلق الفيلم بتصريح للبراهمي يحذر فيه من موجة العنف المستفحلة، ومن تداعياتها التي يمكن أن تُدخل البلد في دوامة قد لا يفلح في الخروج منها، ليكون أحد ضحايا غول الإرهاب الذي ضرب تونس ولا يزال. وعقب حادثة الاغتيال دعا الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر وأعرق النقابات العمالية في تونس، إلى إضراب عام شلّ الحركة الاقتصادية في البلاد تنديدًا واحتجاجًا على الوضع الأمني المتردي، سيما وأن اغتيال محمد البراهمي سبقه قبل أشهر اغتيال أحد رموز المعارضة اليسارية الشهيد شكري بلعيد، في شباط/ فبراير 2013، لتتوالى الحركات الاحتجاجية المطالبة برحيل الحكومة المشكلة آنذاك من حركة النهضة، حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، وحزب التكتل من أجل العمل، والحريات والتي تُعرف في تونس باسم الترويكا، واتهامها، أي الحكومة، بالمسؤولية عن تردي الأحوال الأمنية فضلًا عن الأوضاع الاقتصادية، وقد تجلت هذه الحركات الاحتجاجية في ما سمّي باعتصام الرحيل أمام المجلس التأسيسي الذي سن الدستور والمكون من أغلبية الترويكا.
يعرض الشواشي آراء المعتصمين من المواطنين ومن السياسيين المعارضين للحكومة، ومنهم من علّق نشاطه في المجلس التأسيسي ليلتحق بالاعتصام الذي تواصل على امتداد شهر رمضان، مشددين على ضرورة أن تكون المعارضة سلمية وعدم الانجرار وراء دعوات العنف، خاصة وأن مساندي الحكومة التحقوا في ذات المكان واحتشدوا ليدعموا الشرعية الانتخابية، وفق تعبيرهم، منددين بما أسموه محاولات انقلابية على انتخابات حرة وشفافة، لتنقسم ساحة باردو، مقر المجلس التأسيسي، إلى قسمين تفصل بينهما حواجز أمنية وأسلاك شائكة لمنع أي تصادم محتمل.
وفي غضون ذلك يقرر رئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر تعليق عمل المجلس الذي غادره عدد من نواب المعارضة، في محاولة منه لتهدئة الأجواء وفسح مجال للحوار. وفي الأثناء، تطال عملية إرهابية بجبل الشعانبي، وسط غرب تونس، جنودًا من الجيش الوطنين ليزداد الوضع احتقانًا وتأزمًا وليقرر معارضو الحكومة أن ينقلوا احتجاجهم إلى ساحة الحكومة بالقصبة، مقر رئاسة الحكومة، ويعاد نفس سيناريو ساحة باردو تقريبًا، بعد احتشاد آلاف الموالين للترويكا في الساحة ذانها مواصلين دعمهم لـ"الشرعية"، وليتواصل السجال بين الطرفين الذين يتمسك كل منهما بموقفه مع إدراكهم بوجوب أن تكون التحركات من هذا الجانب، ومن ذاك سلمية وأن لا تنجر إلى مربع العنف الذي قد لا يبقي ولا يذر.
يواصل الصحفي عبر الكاميرا رصد تلك الرّدهات العصيبة في تاريخ البلد والمناكفات التي تحتد وتخفت وصولًا إلى ما سمّي في تونس بالحوار الوطني الذي دعت إليه أربعة أطراف أطلق عليها اسم الرباعي الراعي للحوار والمتكونة من "الاتحاد العام التونسي للشغل"، اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية "منظمة الأعراف ورجال الأعمال"، عمادة المحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والتي حاولت رأب الصدع وجسر الهوة التي تفصل بين مختلف الأطراف، داعية إلى حوار وطني يقضي بحل الحكومة وتعويضها بأخرى من المستقلين والتكنوقراط، مع مواصلة عمل المجلس التأسيسي لحين الانتهاء من الدستور والانطلاق في الإعداد لانتخابات تشريعية ورئاسية جديدة.
وبهذه الانتخابات خرجت تونس من عنق زجاجة كادت تغرق فيها، وأفرزت انتخاباتها تغيرًا في الخارطة السياسية، وفوز أرملة محمد البراهمي السيدة مباركة البراهمي بمقعد فيه الكثير من الرمزية والدلالات، ولتجلس مكانه وترينا بعض الخربشات التي كان يرسمها أثناء جلوسه هناك.
"كان بسيطًا ولكنه كان حالمًا محلّقًا، وأنا هنا في مكانه أحمل أحلامه ومواقفه المنحازة للفقراء" بهذه الكلمات وصفته وبهذه الكلمات شخّصت دورها من بعده وبكلمات أخرى تحدث عنه ابنه عدنان حين يقول" كل الناس تنتهي حياتها بالموت إلاّ أبي، فقد كان موته تاريخ ميلاد جديد، أصبح أبي أكبر بعد موته ولقي شهادة كان يتمناها ويتمنى جنازة مثل رفيقه شكري بلعيد موصيًا أن يدفن بجانبه في روضة الشهداء"، مكان بمقبرة الجلاّز دفن فيه زعماء تونس خاصة الذين قادوا حركة التحرير الوطني، ليكون له ما أرد مع رمزية المكان الذي يقع على هضبة، وكأن من اختار هذه الروضة يدرك أن منزلة الشهيد تقتضي عناء وجهدًا وسيرًا طويلاً لبلوغ تلك المنزلة العالية الرفيعة.
ينتهي الفيلم بما انطلق به ألا وهو تصريح الشهيد محمد البراهمي المحذر من العنف ومغبة الانجرار وراءه، كأنما أراد المخرج أن يتبنى ذات الموقف وأن يحذر بدوره من هذا المارد الذي إن خرج من قمقمه فإنه من الصعب إعادته ومقاومته، وأن بلدًا صغيرًا مثل تونس لا يحتمل انشقاقًا قد يفضي إلى ما لا يحمد عقباه.