26-يونيو-2019

التآزر الاجتماعي في الصومال أدى لتجاوز الصوماليين العديد من المعضلات (رويترز)

يمثل التسول ظاهرة اجتماعية بالغة الخطورة لما يترتب عليه من نتائج سلبية ضارة بالفرد والمجتمع، حيث يتعرض المتسول لأشكال من الضرر، وفي مقدمتها المهانة واستصغار الناس له. ويقول المثل الصومالي عن ذلك إن كثرة التسول تؤدي إلى الكراهية.

يمثل التسول، ظاهرة سيئة في العقل الجمعي الصومالي، الذي يرفض كافة أشكال التسول من باب حفظ الكرامة الفردية والجماعية

والمتسول يتعرض إلى صور من المهانة، منها نظرة الناس له بالشفقة أو الازدراء، وينتهي إلى مهمش. وفي التراث الاجتماعي الصومالي، كان ينتهي الأمر بالمتسول أن يصبح "قوسار - Qosaar" بمعنى "خادم"، ينتقل بفعل الحاجة والفقر المدقع إلى خدمة إحدى الأسر الريفية، والعمل في أملاكها، مقابل أن يجد ما يسد حاجته الأساسية للعيش.

اقرأ/ي أيضًا: الصومال.. حين استعادت "العمامة" مكانتها

ففي البيئة الريفية يصعب حضور التسول، نظرًا لطبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة، والتي لا تتقبل هذه الظاهرة. لدى كان على الفقير المعدم في حال عدم قيام عشيرته بمنحه ما يؤسس لحاجاته الأساسية، أن يتجه لخيار الخدمة في منزل عشيرة ما. وهذه النهاية شكلت ملاذًا لمن تقطعت بهم السبل، ولغير القادرين على خوض غارة لنهب إبل القبائل الأخرى.

لكن طبيعة الريف الصومالي في الوقت الراهن، طرأت عليها مستجدات بفعل حالات الجفاف الطويل وانعكاس ذلك على موارد سكان الريف التي تراجعت كمًا وكيفًا، ما أدى إلى اعتماد أسر كثيرة على مِنح ومساعدات المنظمات الخيرية، والتي توزع حصص غذائية على الفقراء المعدمين حاليًا.

كما حدث ذلك كاستثناء خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، عندما أصابت الغارات والجفاف الصوماليين، فأقامت إدارة الاحتلال البريطاني مخيمات لنازحين في محيط مرفأ بربرة، وكان معظمهم من الأطفال والنساء ممن نزحوا من الأرياف.

وبصورة واسعة للغاية، أصبحت المخيمات تصاحب حياة الصوماليين في داخل البلاد وخارجها، بحيث اعتمدت حياة الكثيريين منهم على المنح التي تقدمها المنظمات الإغاثية والخيرية، فأصبحت الأسر المعدمة الفقيرة والأفراد تحث رعاية تلك المنظمات.

أما المدينة الصومالية فلم تخل من المتسولين بغض النظر عن أعدادهم، وفيها تشكلت الظاهرة، وبعضهم كانوا قادمين من الريف ومن ضمن بيئة مكتفية ماديًا، إلا أنهم احترفوا التسول وحققوا من ورائه عائدًا ماليًا كبيرًا، لكن هؤلاء يشكلون قلة من مجاميع تأتي عادة إلى مدينة مقديشو.

القبيلة كمؤسسة لعبت دورًا بارزًا في مكافحة التسول في الريف والمدينة، من خلال عقدها الاجتماعي الرابط بين أفرادها وفق صيغة التضامن، واستطاعت تاريخيًا أن تحول دون توسع دائرة الفقر المدقع بين أبنائها، عوضًا عن ذلك الحيلولة أمام ظهور التسول، ومساعدة الأسرة الفقيرة بمنحهم الماشية للحفاظ على تماسكها. 

والجدير بالذكر أن المنحة لم تقتصر على معدمي العشيرة، بل إنها تشمل شيخ العشيرة أو القبيلة، حيث هناك تقليد اجتماعي يقضي بأن تقوم هذه المؤسسات الاجتماعية بمنح حصة من المواشي لشيوخها، حتى لا يقعوا في الحاجة ويتعففوا عن السؤال، خاصة وأن طبيعة المشيخة ووظيفتها ترتبط بخدمة القبيلة، وهو ما يفرض على شيوخها التفرغ لشؤونها. لذلك تقوم القبيلة بذلك الرد السامي لمن يتولى مسؤوليتها الاجتماعية، حيث يتم ذلك الإجراء سنويًا، بتقديم منحة من المواشي، وحاليًا أصبحت هناك عطايا مالية وأشكال أخرى من المنح التي تأتي كتقدير لدور الشيخ.

لكن في مرحلة الحرب الأهلية تغيرت الأحوال، بعد أن سيطر رجال السياسة على شيوخ القبائل، ووظفوهم لخدمة مصالحهم، بشرائهم ذمم بعض المشايخ، أو بالضغط عليهم، وربما باغتيالهم، ما أدى إلى أن العديد من مشايخ القبائل باتوا يعتمدون في حاجاتهم على السياسيين الذين سلبوهم قرارهم واستقلاليتهم.

وتمثل تلك الأمور أشكالًا حديثة من التسول، الذي لم يعد من الممكن حصره في صوره التقليدية، فقد بات التسول يأخذ أشكالًا متعددة، في ظل وضع متردٍ اقتصاديًا وسياسيًا.

لكن مع ذلك، فإن التسول يمثل ظاهرة سيئة في العقل الجمعي الصومالي الرافض له من باب حفظ الكرامة، وهو ما دفع بسيدة صومالية لأن تضرب ممثلًا لمفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، في مكتبه الكائن بدمشق آنذاك، عام 1992، وذلك بفعل الافتراء الذي قام به تجاه الصوماليين المقيميين في دمشق.

كانت الحكومة السورية وقتها، ترغب في فتح مخيم للصوماليين بمحافظة الحسكة، حتى تدرجهم كلاجئين في البلد، ما كان سيترتب عليه حصولها على دعم أممي، كما أنها رغبت في إبعاد الصوماليين من دمشق إلى الحسكة النائية.

ويبدو أن ممثل اللأمم المتحدة القادم من إحدى الدول العربية، كان على علاقة وثيقة بالحكومة السورية، وحين تم سؤاله من الصحافة، برر قبض السلطات الأمنية السورية على الكثير من الصوماليين، بأنه "جاء على خلفية تسولهم في شوارع دمشق ورغبة الجهات الرسمية في تنظيم تواجدهم ومساعدتهم من خلال نقلهم إلى مخيم لاجئين!"، على حد قوله، ما أثار استهجان الصوماليين، بمن فيهم السيدة التي تعرضت له بالضرب.

إن استهجان تلك السيدة الصومالية جاء ردة فعل على ذلك الافتراء الذي تجاهل كرم الصوماليين تجاه بعضهم، فقد وجدت الأسر التي أريد نقلها إلى مخيمات في الحسكة، دعمًا غير منقطع من أقربائهم في المهجر.

وقفت الروابط الأسرية والقبلية عاملًا هامًا وراء التماسك والتآزر الاجتماعي السائد بشكل عام بين الصوماليين

وقفت الروابط الأسرية والقبلية عاملًا هامًا وراء التماسك والتآزر الاجتماعي السائد بشكل عام بين الصوماليين، الأمر الذي مكنهم من تجاوز الكثير من المعضلات، ورسوخ كراهية التسول في الوعي الجمعي الصومالي، بفعل صلابة مؤسساتهم الأسرية والقبلية التي توازي في أدوارها الدولة ودورها الغائب بسبب انهيارها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

صفعة صومالية لمشروع الإمارات لتقسيم البلاد.. موانئ البحر الأحمر ثمن التدخل

الصومال الواقف ضد مشروع التقسيم الإماراتي.. البحر الأحمر ليس لكم