11-يونيو-2016

جواد إبراهيم/ فلسطين

جلس مع نفسه، هذا هو التعبير الأفضل لوصف تلك الساعات النادرة التي يقرر فيها عثمان عدم الذهاب إلى العمل ويعدّ لنفسه كأس قهوة كبيرة ويخرج كرسيًّا ويجلس في الحديقة الصغيرة أمام شقته المدفونة أسفل بناية من تسعة طوابق.

قرر عثمان أن يجلس مع نفسه ليفكر في ما يحصل منذ أشهر، وبدأ يكتب على فخذه بقلم هو إصبعه وبخط وهمي هو خط إصبعه، أهم الأحداث مع تواريخها:

أواخر شهر أيار: 

سعاد تطلب الطلاق وهي هادئة، الأمر مختلف تمامًا عن طلبات الطلاق وهما في أتون مشاجراتهما التي لا تنتهي. هدوؤها كان يعني أن طلبها هذه المرة مختلف. إلا أن ردّه لم يكن مختلفًا، حاول التعامل مع الأمر كما يتعامل مع اتهاماتها المستمر له بالأنانية.

أول أسبوع من شهر حزيران:

المدير يرفض طلب الإجازة، ويخبره أن الزميلات والزملاء حجزوا إجازاتهم مبكرًا ولا يحتمل الأمر تغيّب موظف آخر، والمدير يعتمد عليه خلال إجازته في مكان يتكوّن اسمه من ثلاثة مقاطع، لا يعرف عثمان إن كان دولة أو جزيرة أم سلسلة جبال.

28 حزيران: 

العائلة طلبت أفرادها، ابن عم عثمان شجّ رأس شاب من عائلة كبيرة في القرية فقتله، وعثمان ملزم بالمساهمة في مبلغ من الدية التي ستدفعها عائلته الصغيرة لعائلة المغدور الكبيرة، وكم المبلغ المطلوب من عثمان؟ ضعف راتبه الشهري ست مرات ونصف، هكذا يحسب عثمان المبالغ الكبيرة التي لم يمسكها بين يديه، بكم ضعفًا تساوي من المبلغ الأكبر الذي أمسكه بين يديه.

30 حزيران:

عثمان في القرية يحاول إقناع والده أنه غير قادر على دفع المبلغ، ثم ما شأنه بمشاجرات ابن عمه وجرائمه! ليكتشف يومها أنه بالنسبة لعائلته أملهم وملاذهم في المصائب والكروب، وبالنسبة لعائلة المغدور الهدف المفضل للثأر، وكل ذلك ببساطة لأنه يسكن في المدينة حيث يصبح المرء مهمًا وثمينًا، لا كبقية أبناء القرية "يَجُرّون الحمير أو يركضون خلفها"، كما قال عمّه نقلًا عن عم المغدور.

1 تموز: 

هرب من القرية ليلًا حتى لا يراه أحدٌ من أبناء عائلة المغدور ويغلي دمه ويقرر الأخذ بالثأر من الهدف الثمين.

3 تموز: 

قدم طلب قرض من البنك ليتمكن من المساهمة في دية المقتول بعد أن أدرك أنه بذلك ربما ينقذ نفسه من الثأر. وفي اليوم نفسه حردت سعاد في بيت أهلها.

12 تموز: 

وقف أمامه الطبيب محاولًا أن يبدو لطيفًا وهو يخبره أن حيواناته المنوية تعاني خطبًا ما، ظهرت على وجه عثمان علامات بلاهة، ما دفع الطبيب لتفسير أكثر، "نوعية حيواناتك المنوية سيئة، أقصد أنها ضعيفة، ولذلك لم تفلح محاولاتك في الانجاب، يمكن علاج الأمر اطمئن، ولكنه يحتاج بعض الوقت وبرنامجًا صحيًا متكاملًا، هذا ليس شيئًا نادرًا ويحصل مع كثيرين هذه الأيام". بدا وكأن الطبيب أنهى كلامه، ليعود ويقول: "لا علاقة للأمر بقدراتك أثناء العملية الجنسية، قد تكون تفعل كل شيء على أكمل وجه". عثمان وزوجته يعرفان أنه لا يفعله على أكمل وجه بالتأكيد.

15 تموز: 

تأكد أنه وحيد، شعر بحاجة ملحة للحديث مع أي صديق عن أزمته الصحية، فاكتشف أنه بلا أصدقاء منذ سنوات، خاصة أصدقاء من النوع الذي يمكنه مشاركتهم معلومات عن حالة حيواناته المنوية.

الأيام الأخيرة من تموز: 

قرأ طويلًا عن حالته الصحية، فوجد كثيرين يعزون الأمر للاضطراب النفسي والتوتر. تسوء حال حيواناتك المنوية إن كنت تمر بحالة نفسية سيئة طويلة ومركبة.
عاد للطبيب وسأله سؤالًا بدا غبيًا أول الأمر، ثم تفشى عميقًا في وجه الطبيب كسؤال ذكي جدًا: "حيواناتي ضعيفة لأنني في حال نفسية سيئة، وأنا في حال نفسية سيئة لأن حيواناتي ضعيفة. كيف يمكن حل الأمر إذن؟"
للخلاص من الموقف المربك، استخدم الطبيب حجة رائجة: "هنالك فحوص وعلاجات ممكنة ولكنها مكلفة نوعًا ما". كانت هيئة عثمان تقول بوضوح إن الكلفة شيء قادر على إسكاته وإخراجه مهزومًا من أي نقاش.

5 آب: 

قرر عثمان أنه غير قادر على تدبّر تكاليف علاج حيواناته المنوية خلال الأشهر المنظورة، ولذلك فالأفضل ألا يخبر سعاد بالأزمة كلها، فهو لن يحتمل أن تصرّ على طلبها الطلاق حتى مع علمها بحالته الصحية.

7 آب: 

اقتنع عثمان أن امرأة لا يستطيع مصارحتها بسوء حالة حيواناته المنوية، لا يمكن أن تكون زوجة يقضي معها العمر كله، فقرر المضي بإجراءات الطلاق.

13 آب: 

فوجئ باثنين من أبناء عمومته يطرقان باب شقته طلبًا للنوم عنده ليومين أو ثلاثة، فهم لا يجدون مكانًا يؤويهم مع اشتداد ملاحقة عائلة المغدور لهم، فَهِم منهم أن عائلة المغدور احتفظت بالمال وفي حقها بالثأر، وستقرر خلال سنة أيهما تختار. طردهما عثمان واتصل بأبيه وشتمه لأول مرة.

16 آب: 

عثمان في المحكمة يوقّع أمام القاضي معاملة طلاقه من سعاد التي وعدته أن تكون معه في السراء والضراء وفي الحلوة والمرّة، فكّر في وعدهما الذي حلّ محل كلمة "بحبك" في الفصل الأخير من حياته الجامعية، حين جلسا على درج كلية العلوم مستندين إلى حائط دورة المياه الخارجية الوحيدة في الجامعة، هو قال حينها إنه مستعد لفعل أي شيء لإسعادها، وهي قالت إنها مستعدة لتحمّل أي شيء لإسعاده. "أنا لم أفعل وهي لم تحتمل" هذا هو الجواب الوحيد الذي خطر بباله حين سأله القاضي عن سبب الطلاق.

1 أيلول: 

جلب فنيًا لتصليح الثلاجة التي توقفت عن العمل منذ أيام واضطر لتأخير تصليحها حتى يقبض مرتبه الشهري، قال له الفني إن حال الثلاجة ميؤوس منه وكلفة تصليحها تقارب كلفة شراء واحدة جديدة، وعرض عليه بيعه واحدة جيدة بسعر خاص، انتابته شكوك في صدق الفني، ولأنه لا يملك ما يكفي من المال، لم يشتر جديدة ولم يصلح القديمة ولم يجلب فنيًا آخر يؤكد ادعاءات الأول أو ينفيها.

17 أيلول: 

غادر الشركة زاعمًا أنه يعاني تلبكًا معويًا، وفي حقيقة الأمر لم يحتمل رؤية وجه المدير بعد أن وظف خريجة جديدة في الموقع الذي وعده به طويلًا. إن لم يغادر حينها كان من الممكن أن يصفع مديره ويفقد عمله أو يسجن.

23 أيلول: 

في مقهى رخيص التقى صدفة بزميل جامعيّ وتحدثا عما تغير عليهما منذ الجامعة وماذا يفعلان الآن، ثم عرض عليه زميله السابق مقايضة بعض المعلومات عن الشركة التي يعمل بها مقابل المال، وذلك لصالح جهة أمنية يعمل بها صديقه، تركه عثمان فزعا قلقًا وبدّل رقم هاتفه الذي أعطاه إياه.

29 أيلول: 

غازلته عاملة النظافة في الشركة، فشعر بإهانة هائلة، وأحسّ بأنه يهوي إلى قعر وضيع سمح لعاملة النظافة بالتجرؤ على التعامل معه كندّ وموضوع لرغبتها.

......

حين انتهى من كتابة القائمة، قريبًا من مخزن الحيوانات المنوية الضعيفة، أو انتهت المسافة بين ركبته وخصره وامتلأت بالتواريخ والأحداث المكتوبة بخط وهميّ، حاول عثمان النظر في كل ما جمعه والخروج بخلاصة ما.
تمعن طويلًا، شرب بقايا القهوة.
بعد دقائق، تنفس كمن اكتشف شيئًا.
نظر إلى الواجهة الصخرية أمامه وقال:
إنه الصيف.
هو من فعل بي كل هذا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في مهب الحرب

بائعة الأحزان