18-يناير-2018

عبد المجيد لغريّب

هل من العدل أن يقتصر تأريخنا لمشهد أدبي ما على الأسماء الكاتبة فيه فقط؟ غافلين عن الوجوه التي لعبت دور المحرّك فيه، مثل منظمي الملتقيات وأعوان الاستقبال وسائقي السّيارات، التي نقلت الكتّاب؟ علمًا أنّ أهمية هؤلاء لا تتأتّى من الخدمات الجليلة، التي قدّموها للمبدعين فقط، بل من معايشاتهم ومرافقاتهم لهم أيضًا، بما يجعل منهم خزّانات ذاكرة عن المشهد الأدبي وفاعليه.

لما يغفل تأريخ المشهد الأدبي تلك الوجوه التي لعبت دور المحرّك فيه، مثل منظمي الملتقيات وأعوان الاستقبال وسائقي السّيارات، التي نقلت الكتّاب؟ 

عرف المشهد الأدبي الجزائري عبد المجيد لغريّب (1963) شاعرًا، خاصّة من خلال "مهرجان محمّد العيد آل خليفة"، الذي كان من منظميه في مدينة بسكرة منذ عام 1985. لكنّه لم يُقدّم نفسه على ذلك الأساس، "كلّ ما كان من الأمر أنني أكتب نصوصًا أكتفي بعرضها على الأصدقاء في مجالسي الحميمة، لأنني أعتبر الشّعر عالمي الخاصّ وأحتفظ به لنفسي".

اقرأ/ي أيضًا: "المذياع العاق" لجلال حيدر.. انطباعات خاصّة

ولئن كان عبد المجيد لغريّب يرى نشر شعره "مغامرة غير مجدية"، فإنّ نظرته غير ذلك إلى نشر البحوث التي أنجزها في مجالات التّسيير التّربوي والإداري، بحكم التحاقه بالتّعليم عام 1984، وفي التّراث والشّعر الشّعبيين، بحكم احتكاكه بفحولهما في الجزائر، مثل خليفي أحمد والبار عمر وعبد الرّحمن قاسم وعبد الحميد عبابسة وعبد الرّحمن بن عيسى وبلقاسم حرز الله وعامر بن أم هاني، "إنها بحوث تنطلق من خبرة وبحث ومعايشة، وهي تملك مقوّمات أن تنشر".

انزاحت صورة الشّاعر في حضور محدّث "الترا صوت"، بفعل زهده فيها، وخلفتها صورة المؤرّخ غير الرّسمي لتفاصيل المجالس والأسفار والسّهرات والخلوات والمهرجانات الأدبية. فالرّجل عايش الكتّاب الجزائريين والعرب الذين أقاموا في الجزائر على مدار أربعين عامًا. منهم من رحلوا، مثل عمر البرناوي وعبد الرّحمن جيلي ومحمد الأخضر السائحي، ومنهم الأحياء، مثل محمّد الصّالح حرز الله وأحمد حمدي وعلّاوة وهبي جروة وعزّ الدّين المناصرة وعبد الله حمّادي، "أملك الكثير من الوثائق والنّوادر والطّرائف والمُلَح والأوراق المخطوطة، التي يمكن أن تشكّل وثيقة على طبيعة الكواليس الأدبية في المشهد الجزائري".

تأثّرت وجوه أدبية جزائرية كثيرة بالتّحوّلات التي حصلت في البلاد. فانسحب بعضها وهاجر بعضها وغيّر بعضها وجهة اهتمامه، وبقيت مستمرّة في المشهد الأدبي من خلال ما يرويه عبد المجيد لغريّب عنها في مجالسه. هنا تجدر الإشارة إلى أنّ ذاكرة الرّجل قوية بشكل مدهش، فهو يتذكّر اللباس الذي كان يلبسه "فلان" في الحادثة التي يرويها عنه، قبل ثلاثين عامًا، والوجهة التي قدم منها، ورقم ونوع السّيارة التي كان يركب، ونوع السّيجارة التي كان يدخّن.

نقل عبد المجيد لغريّب شغفه بمرافقة الكتّاب والاحتكاك بهم والتّعامل معهم إلى الجيل الجديد، خاصة بعد أن تقاعد عام 2014، فبات همزة وصل بينه وبين الجيل السّابق، في ظلّ هوّة كبيرة تفصل الجيلين، "لم يعد يجمع بين الجيل الورقي والجيل الالكتروني جامع، فهما يجهلان بعضهما، ممّا أسّس لأحكام مسبقة بينهما. فالجيل القديم يرى الجيل الجديد منسلخًا، فيما يرى الجيلُ الجديدُ الجيلَ القديمً مترهلًا. وهو المعطى الذي حرمهما من معرفة الأعماق الإنسانية لكليهما".

استحقّ عبد المجيد لغريّب بهذه الرّوح لقب "ملك النّميمة الأدبية". لكنّ نميمته لا تعدو أن تكون نقل ما أسماه نقل الأعماق الإنسانية للأفراد والجماعات. فهو لا يتحدّث عنك إلا في حضورك أو بما لا يخلّ بأمانة المجالس أو بما تسمح أنت نفسك بتسريبه عنك، "فرق بين النّميمة التي "تهزم اللذات وتفرّق الجماعات" بتعبير شهرزاد في "ألف ليلة وليلة"، ونقل الأخبار التي تشكّل مادة فكاهية. فالأدب ليس نصوصًا تُقرأ فقط، بل هو مواقفُ ومجالسُ أيضًا". هنا ينصح محدّث "الترا صوت" جيل "فيسبوك" من الكتّاب، بأن يكونوا أكثر نبلًا في التّعاطى مع دردشاتهم فيما بينهم، "يُدهشني كاتب يُصوّر ما يدور بينه وبين كاتب آخر على الخاص، ويقوم بنشره في حالة ساءت العلاقة بينهما".

معظم ما يرويه عبد المجيد لغريّب عن الكتّاب إمّا حدث في سيّارته أو بيته. فهما مفتوحان لهم ليلًا ونهارًا على مدار الفصول الأربعة

حمل هذا النّبل في نميمة لغريّب من يعرفه من الكتّاب على الثّقة فيه. فلا أحد يتحفّظ أمامه خوفًا أو خجلًا أو توجّسًا. كما بات حضوره فاكهة الملتقيات. فهو يُثريها بنكته ومحكياته وشهاداته ومواقفه وما يرويه عن الكتّاب حاضرين وغائبين، أحياءً وأمواتا، مشهورين ومغمورين، نساءً ورجالًا، وينهر فورًا كلّ من يُحاول أن ينحرف بما يرويه عنهم إلى مقام مفخّخ بالنّميمة اللّئيمة.

اقرأ/ي أيضًا: ياسمينة خضرة لرشيد بوجدرة.. أسامحك مع كلّ حزني

معظم ما يرويه عبد المجيد لغريّب عن الكتّاب إمّا حدث في سيّارته أو بيته. فهما مفتوحان لهم ليلًا ونهارًا على مدار الفصول الأربعة. ويشهد له كلّ من عرفه في دهشة واضحة بالخدمة والكرم. وهي الدّهشة التي أصابتني قبل أسابيع، إذ كنت شاهدًا على واحد من مظاهر كرمه.

كنّا نخبة من الكتّاب المدعوين إلى معرض الكتاب في تلمسان، وكان لابدّ أن نكون في العاصمة ليلةً قبل الإقلاع لأنّ موعد الطّائرة كان فجرًا. فرفض أن نحجز في فندق أو نأكل في مطعم عوض بيته. وتولّى إيصالنا إلى المطار بنفسه ساعتين قبل الموعد. الأكثر من هذا أنه كان في انتظارنا أثناء العودة في الثالثة فجرًا، واصطحبنا إلى بيته لنقضي بقي الليلة، ثم نقلنا إلى المطار صباحًا لنواصل رحلتنا، "أدرك ما معنى أن أخدم كاتبًا مبدعًا. وأنا بصدد جمع طرائف الكتّاب الجزائريين في كتاب".

يسأل النّاقد محمد لمين بحري في حديث مع "الترا صوت": "لماذا لا تعمل وزارة الثّقافة على الاستفادة من أمثال عبد المجيد لغريّب في تظاهراتها الكبرى مثل معرض الكتّاب؟ فتكلّفهم باستقبال الضّيوف ومرافقتهم طيلة إقامتهم؟ عوض تكليف شباب لا يملك معظمهم علاقة لهم بالأدب والتأدّب، ممّا يشوّش على راحة الضّيف وصورة الجزائر في الوقت نفسه". يختم: "عبد المجيد لغريّب أسطورة مهرّبة من الحكايات الشّعبية العتيقة".

 

اقرأ/ي أيضًا:

سعيد خطيبي: الذات عينها كآخر

"هجرة حارس الحظيرة"...أن تضيع في جيب مانديلا