16-أبريل-2020

عبد الباسط الساروت (1992 - 2019)

ارتبط اسم عبد الباسط الساروت (1992 - 2019) بأغنياته التي حملت على عاتقها سرد الجزء الأكبر من حكايات الثورة السورية، ما يجعل من الكتابة أو الحديث عنه تتطلّب الحديث أوّلًا عن أغنياته التي عبّرت عن مواقفه بطريقةٍ باتت عندها الأغنية متماهية وإلى حدٍّ بعيد مع مواقفه. إنّها وصفته الفريدة في الغناء؛ يتبنّى موقفًا ويغنّيه بعد ذلك، ويحمل السلاح دفاعًا عنه أيضًا، الأمر الذي يجعل من الخنادق والمتاريس القائمة عادةً بين المغنّين الملتزمين بالأغنية السياسية والأنظمة الدكتاتورية، مجازيًا؛ قائمة حرفية وأمرًا واقعًا في تجربته التي جمع فيها بين الغناء والقتال.

استعادة الساروت مرتبطة بالحجر المنزليّ المفروض علينا منذ وقتٍ قد لا يكون طويلًا، ولكنّه بات كذلك بالنسبة لنا. إذ إنّ الحجر وباعتباره شكلًا من أشكال الحصار، يدفعنا برفقة الفضول إلى البحث عن أشكال مختلفة منه قد تكون حدثت يومًا ما.

ترك عبد الباسط الساروت أغنيات ستُستعاد كثيرًا خلال السنوات القادمة، باعتبارها شكّلت وعيًا جمعيًا تقاسمه الأحياء والأموات معًا

ولأنّنا لسنا بصدد العودة كثيرًا إلى الوراء، سوف نقف عند الحصار الذي فرضه نظام الأسد على الأحياء القديمة لمدينة حمص، حيث كان الساروت يغنّي ويُقاتل، وحيث يُمكن لنا استعادة أغانيه ومحاولة قراءتها. "لأجل عيونك يا حمص/ ونقدّم الأرواح/ نتشابك بالأيادي/ ونداوي الجراح/ يا حمص يا الله نادي/ هالحمص ترتاح/ (...)/ وهي كرمالك يا حمص/ أعلنا الكفاح/ يا النصر يا الشهادة/ شهادة ونرتاح".  

اقرأ/ي أيضًا: حرب على صورة الساروت واسمه

ترك عبد الباسط الساروت خلفه بعد رحيله في حزيران/ يونيو 2019 أغنيات ستُستعاد كثيرًا خلال السنوات القادمة، باعتبارها شكّلت وعيًا جمعيًا تقاسمه الأحياء والأموات معًا، فصارت عند هذا الحدّ راسخةً في العقل لا تُغادره. عدا عن كونها ذاكرة وطنية، وتجربة فريدة من الأغنية السياسية السورية، لها من الخصوصية ما يكفل لها تمايزها عمّا سبقها وتلاها.

لا نقول هنا إنّ الساروت كان مُجدّدًا أو ما شابه، لأنّه في الأساس لم يكن يضع نصب عينيه أن يكون مغنيًّا، وهذا ما يفسّر ربّما غياب الثراء اللحنيّ في أغنياته، باستثناء الأخيرة، بالإضافة إلى الصياغات الجمالية الباذخة. وإن أخذنا بعين الاعتبار الظروف التي أنجز فيها أغنياته، يصير من السهل اكتشاف انشغاله بما هو أسمى مما ذكرناه، وتعامله مع الأغنية من باب "الحاجة"، الحاجة إلى قول شيء ما سريعًا، مما منح أغنيته شكل خطابات عاجلة تقول الكثير، وتُجيب دائمًا على سؤال: ما الذي يحدث؟ وما الذي حدث؟

إنّ الإجابة على أسئلةٍ كهذه من خلال أغنية، تتطلّب تفاعلًا كاملًا من المغنّي مع بيئته ومُحيطه. بالنسبة للساروت الذي كان حضوره وصوته طاغيان دائمًا على ألحانه وكلماته البسيطة، أظهر تفاعله مع جمهوره حاجة الأخير إلى وجوده كوجهٍ آخر لثورته، ودعوة إضافية إلى الحرّية. هكذا، ارتبط حضور عبد الباسط بجمهوره أكثر من ارتباطه بالأغنية السياسية التي كانت عنده سبيلًا للحكي والتحريض، وشكلٍ من أشكال الإجابة والتوضيح الذي كان الناس دائمًا بحاجة إليه.

ضمن هذه العوامل، كان الساروت في كلّ مكانٍ تواجد فيه منصتًا إلى جمهوره ومُحاولًا اشتقاق الكلام منه أيضًا، وذلك انطلاقًا من إيمانه بأنّ أغنيته/ حكايته يجب أن تكون عملًا مشتركًا بينه وبين جمهوره الذي كان دائمًا ما يسعى إلى تجاوز دور المنصت للساروت، ولعب دور المُحاور له.

في العودة إلى أغنية "أبو جعفر" غير المعنية بأي صياغات موسيقية تجديدية، ولا العمل على تطويع اللغة الموسيقية والذهاب بها نحو آفاق جديدة للتعبير، كأيّ مغنٍّ سياسيّ؛ نجدها واقعيًا خطابًا خالصًا ينطلق من حاجة الساروت نفسه إلى قول شيء ما سريعًا، وهو ما يعني أنّ علاقته مع أغانيه غير مرتبطة بمنهجية تُحدّد له اختياراته. في المقابل، نجدها رومانسيًا حكايات تروي ماذا جرى: "حانن للحرية حانن/ يا شعب ببيته مش آمن/ صغار كبار منعرف إنّه/ اللي بيقتل شعبوا خاين". أو: "مين رفع مجد العرب إلّا حمص/ مين اللي خلا هالأسد دائم يغص/ دم الشهيد وقت القسى ما ينتسى/ فديت ترابك يا حمص صبح ومسا".

بعيدًا عن هاتين الرؤيتين، واقعية ورومانسية، تكون أغنية عبد الباسط تعبيرًا خالصًا عن أحوال الثورة السورية وتبدّلاتها وتحوّلاها. فبينما كانت أغانيه الأولى غير متأثّرة بأي خطابات أو أيديولوجيات معينة، كما هو حال الثورة، بدت أغنياته بعد عسكرة الثورة وحصار أحياء حمص وعنف ميليشيات الأسد الطائفية متأثّرة إلى حدٍّ ما بخطاب القوى الإسلامية، بحيث باتت ترى الصراع مع النظام صراعًا دينيًا وطائفيًا.

من خلال أغنياته نفسها، لن يكون من الصعب التوصّل إلى حقيقة أنّ تأثّر الساروت ببعض الأفكار المتشدّدة كان نتيجة طبيعية لما وصل إليه حال أحياء مدينة حمص المُحاصرة وسط صمتٍ غريب على المجازر التي كانت تحدث آنذاك بحقّ أهل هذه الأحياء، ممّا يعني أنّ تحوّلات الساروت كانت مرتبطة بتحوّلات الثورة نفسها وانتقالها من مرحلةٍ إلى أخرى.

كان الساروت في كلّ مكانٍ تواجد فيه منصتًا إلى جمهوره ومُحاولًا اشتقاق الكلام منه أيضًا

ويُمكن لنا القول إنّ أغانيه كانت دائمًا تعنون كلّ مرحلة تصلها الثورة. "هيهات أشوفك بعد هيهات/ خلصت ليالينا حرامات/ يا للأسف ما ودعتني/ وبيا سبب رحت وعفتني/ جنّا نعيش أيام حلوات/ هيهات ترجع ذيج الأيام/ كل السوالف صارت أحلام/ مرّت ليالي عليّ ما نام/ بيناتنا حدود ومسافات.. حمصنا/ هيهات بعد أشوفك هيهات".

اقرأ/ي أيضًا: سيرة الساروت.. سيرة الثورة

التحوّل في مسارات أغنية الذي كان مُرافقًا أو جزءًا وانعكاسًا لتحوّلات الثورة، جاء من اكتسابه المزيد من الوعي الذي دفعه إلى التحريض على مقاومة الهزيمة. هذا الوعي نفسه حَمَلهُ في غمرة همومه بمعاناته ومعاناة السوريين للنظر نحو الآخرين في أغنيته الأخيرة الذي خاطب فيها سورية قائلًا: "سوريا ظلي واقفة"، وأبدى تضامنه مع ثورات السودان والجزائر ومعاناة الشعب المصريّ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف نحكم على عبد الباسط الساروت؟

بين الأيقونة والرمز.. عبد الباسط الساروت نموذجًا