06-يوليو-2022
عبد الاله الشاهدي

لوحة عبد الإله الشاهدي

إننا مطاردون ومحاصرون من قِبل الخطيئة الأصلية، فمهما توهمنا التنصل منها نجدها أمامنا وخلفنا وبجانبيْنا، تلازمنا مثل متلازمة مرضية لا محيد عنها، وكل ما نفعله اليوم هو مجرد محاولة يائسة لـ"رتق" آثارها..

تكاد تكون جل ويلات البشرية أصلها ذنب مشترك بين شخصيْن (ذكر وأنثى) لاستخلاص المعرفة من تفاحة، التي ما أن قضماها حتى كُشفت لهما أعضاءهما الجنسية. ليكتشفا الرغبة واللذة والمتعة، ويستشعرا الشهوة ويتطلعا إلى الشبقية. فالمعرفة تحولت إلى فعل التعرف على الجسد، جسديْهما: "رأى" لأول مرة كل منهما جسد الآخر. إن الرغبة والشهوة تستدعيان الكشف عن المستور. فقد تعرف، حينها، الإنسان لأول مرة على نفسه، أو هكذا تحكي الأسطورة.

كانت الخطيئة بالتالي، خلاصًا جماليًا لا عقابًا إلهيًا. لقد أعادت الإنسان إلى أصله الأول: الأرض

 

كانت الخطيئة بالتالي، خلاصًا جماليًا لا عقابًا إلهيًا. لقد أعادت الإنسان إلى أصله الأول: الأرض. آدم والأرض من تراب، إنهما من المادة نفسها، الأول امتداد للثاني وخليفة فيه: "وإذ قال ربُّكَ للملائكة إني جاعلٌ في الأرضِ خليفةً" (القرآن). لهذا يجعل الفنان عبد الإله الشاهدي الخيط، الذي تحمله يد الرجل، امتدادًا للخيط الذي رتق التفاحة الممزقة إلى نصفين، بينما طرفه يلج عين الإبرة، التي تمسكها يد المرأة: بفعل الخطيئة، إذًا، عرفا جسديهما والحب والجنس. لقد أعادت الخطيئة اتصال الجسد الواحد المنفصل (حواء من ضلع آدم)، وإن مؤقتًا، في غضون لحظة الشبق والعشق. لكن لماذا الاقتصار على اليد في عمل الشاهدي لا الجسد كاملًا؟

مفتون هذا الفنان بالتفاصيل، تأتي تفصيلة اليد، في هذه اللوحة الزيتية، 2022، استمرارًا لسلسلة الأعمال التي كرسها الشاهدي لهذا العضو الحيوي، ثيمة وموضوعًا واشتغالًا.. مكثفًا من خلالها رسائله وجاعلًا منها ذريعة وأيقونة لتمثيل رؤاه ومفردة جمالية لتأويل العالم.

تتجلى العلاقة بين أسطورة الخلق الإبراهيمية واليد، في كون آدم وحواء قد قطفا التفاحة باستعمال يديْهما (أو لعله آدم من فعل ذلك!)، بالتالي فهذا العضو هو من اقترف الذنب، وهو ما عليه إصلاح/رتق الخطيئة. وتتحول اليدان في العمل الفني إلى تفاحة رمزية: دنيوية، تقابل تفاحة الأسطورة: الجناتية. بينما يمتد الخيط من الفاكهة إلى عين الإبرة مارا بين اليديْن، ليخيط بدوره الشق بينهما، يعيد لمّ الجسد المنفصل عن أضلاعه!

إن اختلفت قصص الخلق بين الديانات الثلاثة في تفاصيل كثيرة، فكلها تشترك في عملية القطف باليد وفي الفاكهة المقطوفة؛ ولتكن في هذه الحالة تفاحة فلم يحدد الإسلام نوعها (إنها فقط الشجرة)! يضع عبد الإله الشاهدي التفاحة واليد الذكورية في طرفيْ اللوحة من نقيض، بينما تتوسطهما اليد الأنثوية: يد الغواية، التي تحمل الإبرة/الفتحة. فحواء –حسب التوراة والتفاسير الإسلامية- هي التي زيّنت لآدم الأكل من الشجرة، لقد استسلمت لهمسات الشيطان/الحيّة، لتغري زوجها باقتطاف ثمرة المعرفة (الخلد في الرواية القرآنية)؛ "فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر. فأخذت [حواء] من ثمرها وأكلت، وأعطت رجلها أيضًا معها فأكل" (التوراة). تقدم اليد المؤنثة، في اللوحة، عين الإبرة بدل التفاحة، تقدم رمز الغواية والشهوة، تقدم له الرغبة في الخلد (التكاثر والبقاء)!

لم يتعرف الجنسان (الذكر والأنثى)، حسب الموروث الديني، على الجنس إلا حينما هبطا إلى الأرض، ففي الجنة ما إن ظهرت "سوءاتهما" حتى عمدا إلى مواراتها بأوراق الشجر. وفي الجنة أغوت حواء آدم بالتفاحة، وفي الأرض أغوته بجسدها (عين الإبرة)؛ يلعب كل من الإبرة والخيط تمثيلًا رمزيًا لهذا الافتتان الأرضي. فخط الغواية لم ينقطع أبدًا، وتستمر الخطيئة في شكل مغاير فقط.. لقد غيّرت جلدها كما تفعل الأفعى. ويظل الشيطان هو الموسوس في كلا العمليتين!

تطلب من آدم لأكل ثمرة المعرفة -أو الخلود- أن يمد يده إلى أعلى ليطول غايته: تفاحة حواء؛ وأما اليد الذكورية في اللوحة فتسعى لإيلاج الخيط في فتحة الإبرة. يجعل الشاهدي من رأس الإبرة في قمة مثلث متساوي الساقين (تقريبًا)، وهي بؤرة التلاشي، مما يُبوّؤها مكانة رفيعة.. ويمنحها قيمة كبرى؛ فبلوغها يتطلب الصعود والمشقة والصبر والأناة. وتظل يد الأنثى هي التي تغري وتفتن، وبدل أن تقدم فاكهة تقدم إمكانية إيلاج الخيط في الإبرة.

يعيد عبد الإله الشاهدي تأويل الأسطورة عبر رؤية معاصرة، لا تعمد أبدًا إلى أي مقاربة محاكاتية أو إلى أي اشتغال عامر بالمفردات، فهو يستند في عمله إلى "الأقل كلفة" والأكثر إثارة

مهما فعلنا إذًا، من رتق الخطيئة الأصلية، فنحن نواصل الوقوع في الغواية عينها.. في اللوحة يتضح جليا أن الإبرة تكاد تكون امتدادًا لليد، إن لم تكن جزءًا منها، وفي هذه الحالة ليست الإبرة هي التي تم تقديمها، بل اليد كاملة: الجسد بالمعنى الأوسع. أما الخيط الذي يلج الإبرة فهو ممتد من التفاحة، إنه استمرار للأصل وامتداد للرغبة المكتشفة هناك، امتداد للجسد آدمي الجناتي.

مشتهى "ذكر الجنة" التفاحة، ومشتهى "ذكر الأرض" الجسد الأنثوي، وبينهما تقع اليد المؤنثة بوصفها علامة الشهوة والغواية، ألا نقول: "طلب يد البنت للزواج؟". إنها فتنة اليد! "كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بين البنين. تحت ظله اشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة لحلقي.. أدخلني إلى بيت الخمر وعلمه فوقي محبة.. أسندوني بأقراص الزبيب أنعشوني بالتفاح فإني مريضة حبًا" ( نشيد الأناشيد). ومغرية هي التفاحة في استدارتها وبهائها.

يعيد إذًا عبد الإله الشاهدي تأويل الأسطورة عبر رؤية معاصرة، لا تعمد أبدًا إلى أي مقاربة محاكاتية أو إلى أي اشتغال عامر بالمفردات، فهو يستند في عمله إلى "الأقل كلفة" والأكثر إثارة، متأثرًا بلغة الشعر التي تكثف الصورة لغة، لتقدم نصًا قابلًا لأكثر من تأويل.. نصًا غامضًا وواضحًا في الآن نفسه.. مثل الأسطورة.