06-يوليو-2017

المخرج الإيراني عباس كيارستمي (1940-2016)

يصادف الرابع من تموز ذكرى وفاة المخرج الإيراني عباس كيارستمي (1940-2016). وكرجلٍ جديرٍ بالذكرى والاستحضار رحنا نقلب الكتب لقراءة حوارات معه، ومراجعة أقواله والانكباب على مشاهدة أفلامه مرة أخرى. لعل ذلك يعطل غيابه قليلًا، ويفي بشيء من الوجد في الذكرى الأولى.

جان كلود كارييه: سينما كيارستمي مطرّزة بالبراءة. إنها مباشرة وبسيطة

توفي شاعر السينما عباس كيارستمي العام الفائت في باريس، فرنسا التي حصل منها على أول تقديرٍ عالمي لأفلامه، من خلال جائزة مهرجان كان لفيلمه "طعم الكرز". ولفرنسا أيضًا شأن عند عباس كيارستمي ليس فقط في الموت بل بما قاله الفرنسيون فيه من أمثال الممثل الفرنسي ميشيل بيكولي: "... كيارستمي ينجز الأفلام بفضل مخترعي السينما، لكن هؤلاء المخترعين أنفسهم سيكونون معجبين باختراعهم عندما يشاهدون حكايةً يرويها كيارستمي".

اقرأ/ي أيضًا: سينما كيارستمي المحبة للحياة الباحثة عن مباهجها

وما قاله فيه الكاتب والشاعر الفرنسي جان كلود كارييه: "... سينما كيارستمي مطرّزة بالبراءة. إنها مباشرة وبسيطة، وهي لا ترفع أي شعار، فلا مجال فيها للاستطرادات ولا لرفّات الجفن. الفيلم يعطي الانطباع بأنه يخلق نفسه تلقائياً دون أي أسلوب مقرّر سلفًا.". فصارت تلك البراءة اسم كتاب ترجمه الكاتب أمين صالح، جمع فيه ترجمات لحواراته، وبتنا ننهل منه كلما أحسسنا بتوقٍ لكيارستمي.

ربما تأتي رغبة الكتابة في الذكرى الأولى لوفاته اتباعًا للفكرة ذاتها عند كيارستمي والتي شكلت جوهرًا فلسفيًا في أفلامه، وهي إعادة بناء الواقع واكتشافه من جديد. وإعادة بناء عالم عباس كيارستمي واكتشافه من جديد قد تبدو من الأمور الأكثر متعةً وفرادة، بعيدًا عن الصيغ الدرامية التي تخلق المشكلة وحلّها، حيث مشكلتنا لاحل لها فجوهرها الموت. يبدو الأمر الأنسب في الذكرى أن نقف على أطلال سينماه الشعرية ومحاكاة معانٍ خلقها الشعر وحده من خلال ريشة تخط تفاصيل صغيرة عن الحياة جاءت مع كيارستمي وماتت معه.

ماهي السينما يا كيارستمي؟ فيجيب "هي الصورة التي لا تكون محصورة ضمن حدود ما تراه".  كيف لا وهو قدم بحدود لقطاته ما يكفي من عوالم ومساحات شاسعة من الصور والأحلام. كيارستمي سحر المادة البسيطة، البساطة التي تتخللها لحظات صمت بعيدة عن السرد المكثف وأقرب للشعرية الرحبة.

ترسم عيناه شعرًا وصورًا فهو القادم من ولعٍ بالرسم والتصوير، تعرف على السينما في عمر الرابعة عشر عندما عرضت أفلام الواقعية الإيطالية في طهران. حين صار أبطال الحياة اليومية أبطالًا سينمائيين بعيدًا عن أسطورة البطل الخارق في السينما الأمريكية.

مصمم الغرافيك لكتب الأطفال، هام بالعمل معهم فكانت بدايته حقًا مطرزة بالبراءة/ حيث دخل إلى السينما من بوابات عيون الأطفال وبحثهم وشغفهم. تأثر بالشعر الفارسي الكلاسيكي والمعاصر، وفي عدد من أفلامه اقتبس قصائد أو أبياتًا منه مرة بنقل القصيدة واستلهام منها فكرة الفيلم، ومرةً أخرى بتلاوة القصيدة على لسان شخصياته، فصار أبطاله عمر الخيام وسُهراب سبهري وفروغ فروخزاد. سعى عبر تلك القصائد إلى ربط الماضي والحاضر، الاستمرارية والتغيير. فبتكييفه للمقاطع الشعرية السينمائية شكل عتبة أدخلت تلك الأشكال الفنية في قوالب متحولة، التحول من نص إلى نص، أو من نص إلى صورة. فأحيا النصوص وأنعش الصور وكوّن مواقف يومية في الحياة والسياسة والحب.

لا سيناريوهات كاملة حيث لا سلطة للنص، التدوين مرافق للارتجال، العملية الإبداعية متكاملة بين ممثل ومخرج أمام ووراء الكاميرا، سيطرة الكاميرا والمكان أكبر من نص كامل موحد. فالقصة بحد ذاتها غير كافية ولاتعني معرفتها بأننا قمنا بشيء ما. كذلك لا حيل بصرية، فللبصر مهمة في أفلامه الروائية خصوصًا، كأن يقول لنا تعال وتأمل المصائر بصمت، لا يمكن لمئات البدع البصرية أن تحيل بصرك عن متعة اللقطة الطويلة حيث الاستمرار للصورة والقول سيأتي لاحقًا.  

كيارستمي: نحن أقرب إلى أحلامنا من حياتنا الواقعية، ينبغي أن نستمر في الحلم حتى نغير الحياة الواقعية

عندما سئل: "لم العديد من أفلامك تدور غالباً في السيارات؟"، أجاب: "أرى العالم من نافذة سيارتي، أقضي على الأقل من ثلاث إلى أربع ساعات يوميًا في سيارتي. إنها مكان جيد للتركيز، وللاتصال بالآخر حين تجلسان جنبًا إلى جنب، دون أن يضطر أحدكما إلى النظر في عينيّ الآخر. إنكما في هذه الحالة تتواصلان على نحو أفضل. للصمت في السيارة منطق مختلف. بوسعك أن تنظر إلى الخارج، لكن هذا لا يعني أن الحوار انتهى. بينما في الحجرة، يتعيّن عليك أن تستجيب، مع إقصاء للحظات الصمت من أجل التفكير".

اقرأ/ي أيضًا: عباس كيارستمي وأبو اسكندر أيضًا

عباس كيارستمي، الحاصل على وسام فلليني من المنظمة التربوية العلمية والثقافية التابعة للأمم المتحدة، عمل مع أطفال وممثلين غير محترفين، وعمله هذا أخذ أبعادًا سينمائية في أفلام كثيرة، فحمل الكاميرا وذهب إلى المدارس، راح يصور المشاكل التي يعاني منها الأطفال ويكشف الغطاء عن أزمة تعليمية كبيرة. فلاحظ كيف تتبدى الحياة للصغار، من خلال أفلام البدايات البريئة يمكن تعقب وجهة نظر طفل ينتقل من مكان إلى آخر بدروب مألوفة ومصادفات وعوائق، مختبرًا ذلك العقل الصغير وأدواته في مواجهة التحولات.

عباس كيارستمي ليس مخرجًا واقعيًا، ولكنه يبني الواقع كما يحلو له، يرسم أبعاد الطريق بالحد الأدنى من السينما، ما من فيلم يخلو من طريق متعرج يصل إلى أعلى التلة، أو مستقيم مار عبر أشجار الزيتون، وغالبًا ما يرسم أبعاد الطرق على معالم وجه من يقود السيارة فاستدارات الوجه تخبرنا بأن الطريق صعب وغير سالك ويحتاج الكثير من الصبر. يرسم طريقه كما يخطط للقطة ما، كما وأنه لا يبني كوادر أو طرقات بل يذهب إلى الطريق النقي والخام يصبغه بالشعر عبر الكاميرا، ثم يطلب من الأبطال الدخول إليه، يخطط عالمه بعناية ومن خلاله يقدم رؤيته الخاصة للواقع.

أصدر عباس كيارستمي المجموعة الشعرية الأولى "السير مع الريح" ترجمت للعربية عام 2004، كما ترجمت إلى الإيطالية والفرنسية، وكانت الأخيرة بإشراف جان كلود كارييه، والذي تعاون مع عباس كيارستمي في فيلمه "نسخة طبق الأصل" 2010. وكان من المتوقع أن يصبح "السير مع الريح" فيلمًا جديدًا بعد فيلمه "كمن يحب" 2012، لولا أنه بقي متروكًا إثر الموت، كحال الكثير من السيناريوهات التي تركها كيارستمي غير مكتملة. 

كتاب "ذئب متربّص"  ترجمة ماهر جمو. 300 لقطة سينما شعرية كإضاءات لغوية مكثفة في جمل قصيرة، حيث الحد الأدنى من التعبير عن صورة في جملة كأنها غير مكتملة، لكنها عين الذئب المتربص وعدسة كاميرا كيارستمي تردد: "في غيابك أتحدث إليك/ في حضورك/ أتحدث إلى نفسي". "ريح وأوراق" مجموعته الشعرية الثالثة المترجمة للعربية، الصادرة عن منشورات المتوسط 2017، يكمل كيارستمي إخراج الشعر ورؤاه الشعرية بين الصوفية والهايكو الياباني، متنقلًا بين معالم الطبيعة التي يحب، ومبتكرًا صورًا سينمائية من الشعر. 

كان التصوير الفوتوغرافي مهربًا له بعد المنع من تصوير الأفلام السينمائية، فاندلاع الثورة الإسلامية وإعلان الجمهورية أطاح بالسينما ومنعها وهجر الكثير من السينمائيين. وعقب ذلك وجد عباس كيارستمي الحلّ، وشكل له علاجًا نفسيًا بعد هجر الرسم، هو من رسم بالضوء والمطر صور الأشجار والطرقات، وأولع بتلك العزلة الريفية بعيدًا عن المدن والموانع، كما وعرض في معارض عالمية وبيعت صوره بأضعاف الجهد.

بعد أن منعته بريطانيا من تأشيرة الدخول بعذر أن أحدًا لا يعرفه هناك، أعطته قاعة غسان كنفاني في مخيم اليرموك لللاجئيين الفلسطينين في دمشق تأشيرة الدخول إلى المخيم، فاحتفظ لنفسه بكاسيتات عبد الحليم حافظ وتأمل الملصقات والصور على جدران مدرسة الأونروا. 

عن الأمل والشغف وأيضًا البراءة حاك عباس كيارستمي الحكايات وصور المناظر، استسلم لإغواء الطبيعة فتأمل الإنسان ومشاكله النفسية التي كانت معضلة هذه السينما. ضبط الحياة اليومية على إيقاع الرحلة وعشوائيتها وصور العلاقة بين الواقع والوهم بين النسخة والأصل.

آخر ما ترك لنا كان فيلمه الوثائقي القصير الذي عمل عليه آخر ثلاثة سنوات من حياته، "24 فريم"، أو لقطة من صور ثابتة ولوحات كانت مشروعه التجريبي الأخير.

بعد ذلك الإرث ما نقوى على فعله اليوم هو الأمل ومتابعة الحلم لتغيير الواقع واتباع قوله: "نحن أقرب إلى أحلامنا من حياتنا الواقعية، ينبغي أن نستمر في الحلم حتى نغير الحياة الواقعية ونجعلها تماثل أحلامنا".

اقرأ/ي أيضًا:

عباس كيارستمي.. انطفاء شاعر الكاميرا

سينما من أجل الحرية