11-يوليو-2016

متظاهر إسرائيلي يحمل صورة رابين في القدس المُحتلة (Getty)

"دعوني أقول إنني أقف هنا اليوم وأنا أشعر بسعادة غامرة، وأشكر كل من حضر إلى هنا ويقف ضد العنف ومع السلم" بهذه الكلمات افتتح رئيس وزراء إسرائيل السابق إسحاق رابين كلامه قبل اغتياله عقب الخطاب الذي جاء في أعقاب اتفاقية أوسلو الموقعة عام 1993، وما عقبها من احتقان داخل المجتمع الإسرائيلي والطبقة السياسية في إسرائيل وتباين بين آراء اليسار واليمين، ما انتهت إلى اغتيال رابين الذي أمسى باغتياله بطل "سلام" عالمي بعد مسيرة سنوات من الإجرام لصالح المشروع الصهيوني.

لا يسعى عاموس جيتاي في فيلمه لكشف من هو المسؤول عن تنفيذ عملية اغتيال رابين

من خلال وجود مادة فيلمية توضح ملامح الاغتيال اتخذ المخرج الإسرائيلي عاموس جيتاي من تلك المادة انطلاقة له للتحقيق في حادث الاغتيال، ومن خلال متابعة أحداث الفيلم "رابين.. اليوم الأخير" يتضح للمشاهد أن جيتاي لا يسعى لكشف من هو المسؤول عن تنفيذ عملية الاغتيال، لاسيما أنه معروف وهو الشاب اليميني إيجال عامير، بقدر سعيه للإجابة عن تساؤل جلي واضح في أعقاب الحادث، وهو لماذا تم الاغتيال.

تساؤلات وقناعات
استطاع جيتاي من خلال مدة الفيلم الطويلة نسبيًا والتي تجاوزت الساعتين والنصف للإجابة عن هذا التساؤل من خلال عناصر متداخلة تعتمد على البحث في قناعة الإسرائيليين وتأثير التغيرات السياسية لقراءة المشهد، وسط رؤية تشاؤمية لمستقبل غارق بالصراعات.

نستهل قراءة الفيلم الذي تم عرضه في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر الماضي في صالات تل أبيب مع السرد والحبكة، حيث ينوع الفيلم بين الروائي والتسجيلي، من خلال استخدام مشاهد مصورة مسبقًا للحادث وما عقبه، إلى جانب تقديمه لمشاهد روائية، ويبدأها مع مشهد حواري لصديق رابين ورفيقه بهذا اليوم شيمعون بيريز يفسر الأخير أسباب اغتيال رابين، ذاكرًا أجواء الاحتقان التي لافت الملامح السياسية والاجتماعية في دولة الكيان والمجتمع الإسارئيليين عقب أسلو ومحاولات رابين وسعيه للسلام، من وجهة نظر بيريز طبعًا، وتعتبر شهادة بيزيز كفيلة بتوضيح المنحى المؤيد لرابين وعملية السلام وفق منظوره الذي ينهجه الفيلم.

يعتمد جيتاي تقنية الفلاش باك والعودة بالأحداث، إذ يبدأ مع عملية الاغتيال والأجواء الاحتفالية التي وجدت يوم 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1995، كما يقدم كلمة رابين التي توضح لماذا تم اغتياله، ومن ثم تذهب الأحداث وتعود بين ثلاثة أزمنة، زمن الحادث وزمن ما قبل الحادث وزمن ما بعده، ليكون المشاهد أمام صورة كاملة لوجهة نظر مخرجه والمشارك بالكتابة إلى جانب الكاتبة ماريا جوس سانسليم، التي رافقت المخرج في أعمال ماضية مثل "يوما ما ستفهم عام 2008"، "انفصال عام 2007"، وكذلك "أنا عربي عام 2013" وركزت أعمالهم على ضرورة إقرار السلام وإعطاء الدولة الفلسطينية لحقوقها، ويتضح هذا من تأثر حياة جيتاي نفسه من خلال مغادرته لإسرائيل بعد تضيق الخناق عليه وعلى أفلامه وحياته بفرنسا مدة عشر سنوات وعودته بعد اتفاقية أوسلو.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "بين المؤمنين".. صناعة التطرف في باكستان

من قتل رابين؟!

وبالعودة إلى رابين ويومه الأخير نجد أن الفيلم يقدم دليلًا واضحًا على أن القاتل لرابين لا يختزل فقط بقاتله المباشر منفذ الفعل إيجال عامير، بل يطلق جيتاي أصابع الاتهام نحو ظروف وأشخاص متنوعة، فما بين سائقه الذي لم تساعده الظروف لإيصاله إلى المشفى بالوقت المناسب وكذلك حارسه الشخصي الذي اكتفى بحمايته من الناحية اليمنى في حين جاءت الرصاصة القاتلة من جهة اليسار، وكذلك الخطاب التصعيدي الذي أعلى منصته "بنيامين نتانياهو" الذي كان يترأس حزب الليكود اليميني، ورفضه لعملية إرساء السلام ما بين الفسلطينيين والإسرائيليين وفق صيغة أوسلو آنذاك، وتباين آراء المجتمع الإسرائيلي وانقسامه ما بين مؤيد ومعارض لأوسلو، لهذا تتناثر دماء رابين ما بين عديد من الأطراف.

 

سرعة اللقطات في بعض المشاهد تنقل للمشاهد حالة التوتر التي يحملها الفيلم

صراع التطرف
طرح الفيلم بعمق قراءة لوجه التطرف في إسرائيل وتأثيره على مسار السياسة، وظهرت ملامح التطرف بصورة متناسقة مع الأحداث، حيث يوضح خلفية قاتل رابين وقراءته للتوراة التي قادته في النهاية لتفيذ عملية اغتيال رابين دون الشعور بالذنب.

تمكن المؤلفين من طرح قضية خاصة بإسرائيل بخصوصية شديدة لهم، وغرق في محلية الحدث، من خلال تشريح جوانبه فيما يخص الإسرائليين، وطرح وجهات النظر المحللة للموقف السياسي، من خلال اللجنة التي تشكلت للتحقيقات التي عرفت باسم لجنة "شاغمار" نسبة إلى القاضي مائير شاغمار رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية أنذاك، معتمدًا على خلفية المشاهد بصورة عامة حول أحد المواقف المفصلية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وهو اتفاقية أوسلو.

بالنظر إلى الصورة السينمائية نجد أن تصوير الفرنسي إريك جوتيه اعتمد على اللقطات الثابتة المتقطعة، ورغم ثبات اللقطات إلا أن سرعة اللقطات في بعض المشاهد تنقل للمشاهد حالة التوتر التي يحملها الفيلم، ويعكس من خلال توتر الكاميرا حالة التوتر التي يعيشها الشخوص عقب عملية الاغتيال.

فضلًا عن استغلال المساحات والأماكن وتنقلات الكاميرا بسلاسة ومتابعتها للشخوص عن قرب، لاسيما أن الكاميرا تتولى مهمة الراوي العليم بكل التفاصيل ومن الخارج وهو ما يتلائم مع طبيعة التسجيل التي تتضافر مع المشاهد الروائية.

مسرحة العمل

فيما استخدم المونتير يوفال أور تقنية الإظلام للتنقل بين مشاهد الفيلم، ورغم أنها تقنية كلاسيكية إلا أنها خدمت الفيلم وتوافقت مع فكرته، فالمونتاج لا يعني استعراض المونتير لكل ما يتقنه من تقنيات بقدر قدرته على توظيفها بحسب ما يحتاج العمل، وهو ما قدمه أور، حيث تلاءمت تقنية الإظلام لإضفاء أجواء مسرحية على العمل، وكأن المشاهد أمام عمل مسرحي تنتقل مشاهده ما بين عدة عوالم لتوضيح ملامح تلك القضية الواضحة ظاهريًا وغامضة على المستوى الخفي.

 

ويحضر في الخلفية موسيقى تثقل العمل من ألحان المؤلف الإسرائيلي أميت بوزنانسكي الذي منح الفيلم شاعرية خاصة بلحن هادئ يتصاعد مع اختلاف الأحداث، وتأثر بالمشاهد، وهو ما يدعم الجانب الروائي بالفيلم، حيث أن الموسيقى تشعر المشاهد بقدر الفاجعة التي حلت على إسرائيل عقب اغتيال رابين واضطراب الموقف السياسي الذي أثر بدوره على الجانب الاجتماعي والفكري.

رغم أن التمثيل لا يعتبر عنصر قوي بالأفلام التسجيلية نظرًا للحضور الأكبر لعناصر الصورة والسرد، إلا أن التمثيل بالفيلم كان له حضور مميز، لاسيما في مشاهد الاستجواب من خلال اللجنة التي تشكلت للتحقيق ومعرفة من المتسبب في التقصير، فضلًا عن المشاهد القليلة التي حضر بها القاتل "إيجال عامير" والذي جسد دوره الإسرائيلي يوغيف يافيت موضحًا انفعالات الشخصية وما تحمله من قناعات تدفعه دفعًا للقتل.

ورغم خصوصية الفيلم وتركيزه على ملف اغتيال رابين بمحلية تشريحية لحال الوضع الإسرائيلي إلا أن الفيلم استطاع أن يلفت انتباه المهرجانات العالمية وحاز على جائزتين بمهرجان البندقية السينمائي الدولي لعام 2015 وكذلك جائزة بمهرجان إشبيلية السينمائي الدولي للعام ذاته.

رغم طول مدة الفيلم التي تجاوزت الساعتين والنصف إلا أن إيقاع الفيلم كان متوازن وكل مشهد جديد حمل معه مشاعر ووجهة نظر يرغب المخرج في طرحها، لهذا لم يتسرب الملل كثيرًا لي، رغم أن النهاية حملت معها ملامح التشاؤم، من وجهة نظر جيتاي، والتي انتهت بخروج القاضي شاغمار في النهاية دون معرفة من المتسبب في التقصير، وتحيطه دعاية نتنياهو من كل حدب وصوب وكأن جيتاي يقول إن السلام لن يعرف طريقه إلى تلك القضية.

اقرأ/ي أيضًا:
"توك توك".. بعيدًا عن السينما النظيفة
فيلم Amy.. الدخول في الأسود