24-أكتوبر-2015

غنى لحمزة الخطيب واصفًا إياه بـ حمزة الشهيدْ إنتا الأسد

يبدو مصطلح "الأغنية السورية" غامضًا إلى حدّ ما، حيث إنّ هناك مغنين وأغانيَ أكثر مما هناك هوية غنائية موسيقية كاملة تدلّ على سوريا، على العكس مما نجده في "الأغنية العراقية" أو "الأغنية الخليجية"... وسواهما. بين مظالمها الكثيرة، لا بدّ أن نسجّل أن سوريا مظلومة غنائيًا أيضًا.

بين مظالمها الكثيرة، لا بدّ أن نسجّل أن سوريا مظلومة غنائيًا أيضًا

باستثناء قلة من الفنانين من أمثال صباح فخري وفهد بلان وذياب مشهور وفؤاد غازي، أو الملحنين كسمير حلمي وعبد الفتاح سكر؛ لا يكاد المرء يجد ما يعبّر عن سوريا غنائيًا. نستثني أغاني الفلكلور حيث إن هويتها ناجزة، ما نقصده هنا هو عملية فنية حديثة تأخذ شكلًا غنائيًا بجهود فنانين من بيئات البلد المختلفة، وضمن مدارس وتيارات متعددة، نستطيع من خلالها أن نقترب من الوجدان السوري العام خلال حقبة زمنية معينة.

اقرأ/ي أيضًا: ناظم الغزالي.. صوتٌ على جسر المسيّب

قد يحتاج الأمر بحثًا عميقًا، لكننا نكتفي بملاحظات بسيطة منها غياب شعر العامية في سوريا، نظرًا لاندماج اللهجات السورية مع دول مجاورة، أو لانبثاق الكيان السوري أصلًا من رحم المنطقة الأكبر المتمثلة في الهلال الخصيب، فلا يغيب عن الباحث اشتباك لهجة الجزيرة السورية مع بعض لهجات العراق، أو امتزاج لهجة القلمون باللهجة اللبنانية. من ناحية ثانية قد يرجع الأمر إلى اهتمام الشعراء بالنظم ضمن المتوارث النغمي الشفاهي، أي أنّ غالبية ما أنتجه السوريون جاء ضمن قوالب وضعها الأجداد في ألوان غنائية مثل الميجانا والدلعونة.. وسواهما. وأيضًا بسبب التوجه القومي خلال سنوات حكم "حزب البعث"، حيث راحت أعطيت الفصحى كل الاهتمام الرعاية، كما كان لبروز المساهمات السورية في تجديد الشعر العربي الفصيح كنزار قباني وأدونيس والماغوط أثرًا في جعل الشعراء الشباب يحاولون اقتفاء أثرهم. 

لم تعرف سوريا شاعر عامية بمستوى بيرم التونسي في مصر، أو عبود الكرخي في العراق. ربما كان موجودًا لكنّ الأكيد أنه حرم من الحضور. كما جرى تهميش الكيانات الشعرية الشعبية عبر تهميش الكيانات الاجتماعية نفسها، ليروّج الإعلام الرسمي، فيما بعد، ولحسابات سياسية، أغاني علي الديك.

ورغم كل المحاولات الحكومية في بث الروح في جسد الأغنية السورية الذي فقد أطرافه وحواسه، عبر إحياء مهرجانات في مختلف المحافظات لعل أبرزها مهرجان الأغنية السورية الذي انطلق في حلب وبات عادة سنوية لا يكترث لأمره أحد، ولم ينجح في تكريس أي نمط غنائي أو مدرسة، بل ظل كثير من السوريين يصنفون أغاني الفرات بوصفها عراقية، أو أغاني حوارن بوصفها أردنية.

ما يستدعي هذا التداعي هو غياب الفنان عامر سبيعي، الذي عرف كممثل في أدوار لم تجعله يبرز بالشكل الكافي، سواء في السينما أو التلفزيون، لكن مجيء الثورة كان مناسبة لاكتشافه شاعرًا وملحنًا ومغنيًا، من ضمن اكتشافات عديدة للأرض والبشر.

يستعيد عامر سبيعي صورة الفنان الهامشي المتمرد، الذي يقاوم السلطة بالغناء

اللافت في تجربة الراحل أنه قدّم أغنية دمشقية 100%، قد تبدو منتمية إلى الطقاطيق القديمة التي عرِف بها والده رفيق سبيعي "أبو صياح"، لكنها فكريًا في مكان آخر كليًا. ناهيك عن أنه لا توجد هناك أغنية دمشقية غير ما هو تراثي، وهو تراث جرى طمسه بشكل متعمد، كما أنه لم يأت فنان/ـة معاصر لأخذ روح اللهجة والمكان كخامة موسيقية غنائية، تصلح أن تكون تعبيرًا صميميًا عن المكان وأهله.

أبو رفيق، في اللقب الذي اختاره عامر سبيعي، أو "شيخ الشباب وخادم الأوادم" في اللقب الذي اختير له، فعل ذلك كله دون أن يكون في الأمر قصدية، وهنا مكمن القوة، فالرجل كان منطلقًا من حاجته العفوية إلى القول والتعبير بشكل لا يشبه شكل التخطاب اليومي، وهذا بالضبط ما يجعل الفنّ فنًا. 

اقرأ/ي أيضًا: الألف أينما ارتمى.. الموسيقى برداء الشعر

ميزة أخرى سجلها الفنان لنفسه وهي أنه استعاد فنيًا صورة الفنان الهامشي المتمرد، الذي يقاوم السلطة بالغناء، كحال الشيخ إمام، فحيث عُرف الأخير من تسجيلات بدائية تواكب أحداثًا سياسية، حدث الأمر نفسه مع أبي رفيق لكن عبر فيديوهات بدائية، كانت تتم في جلسات خاصة، حين كان الفنان يعيش في منطقة ساخنة في ريف دمشق هي حرستا، لتتوافر بعض فيديوهاته بعد رحيله إلى مصر حيث قضى نحبه.

صبغ الهجاء السياسي أغانيه خلال الثورة، غنى لحمزة الخطيب واصفًا إياه: "حمزة الشهيدْ إنتا الأسد"، كما غنى في هجاء بشار الأسد مستلهمًا مثلًا شعبيًا شاميًا، حيث وصفه في إحدى أغانيه بـ"شخّاخ وقاعد بالنص". قبل هذا غنى أبو رفيق أغانٍ في رفض احتلال الأراضي العربية، كما في أغنيته "صار بدها حلّ أبو فهمي"، حيث يجعل من أبي فهمي، الشخصية الشامية، موضع محاورة عن الاستعمار وضرورة مقاومته.

ينتمي عامر سبيعي إلى فئة الفنانين الشعبيين الذين انتمى إليهم والده قبل أن يختار الوقوف مع النظام. كما أنه ينتمي إلى فضاءات الفنان التشكيلي الشامي أبو صبحي التيناوي الذي انشغل برسم السير الشعبية التي يرويها حكواتي المقهى. عامر السبيعي واحد من أولئك الفنانين الشعبيين الذين يعطون الحياة لإنتاجهم، دون أية أهمية لصحابها.

في رحيله، ننتبه إلى أن ما لا نعرفه من سيرة هذا الفنان هو الأكثر، وأن ما لم نسمعه من أغانيه هو الأكثر أيضًا.. ترى أليست فرصة لجمع هذا المنتج السوري؟