عامان على الإبادة في غزة.. حين فشل العالم في تسمية الجريمة باسمها
7 أكتوبر 2025
كأنّ كل ما حدث لم يكن كافيًا بعد لنسمّي المأساة باسمها الدقيق: إبادة جماعية.
مضى عامان على الحرب على غزة، ولا تزال المؤسسات الدولية والسياسية والإعلامية تتردّد في نطق الكلمة الصحيحة، رغم أن الأدلة الدامغة لم تعد تحتمل تأويلًا. آلاف الجثث، وتجويعٌ قسري، وتدميرٌ ممنهج للبنية المدنية، واستهدافٌ متعمد للسكان على أساس هويتهم الوطنية. كلها أركان مكتملة لجريمة الإبادة الجماعية كما يعرّفها القانون الدولي منذ معاهدة 1948. ومع ذلك، يصرّ العالم على التعامل مع الكارثة وكأنها "أزمة إنسانية" عابرة، لا جريمة ضد الوجود الفلسطيني ذاته.
لكنّ العجز عن تسمية الأشياء بأسمائها لا يُعبّر فقط عن تهاونٍ قانوني، بل عن انهيار أخلاقي شامل للنظام الدولي الذي يرفض أن يرى ما هو واضح أمام عينيه.
إدارة الأزمة بدلًا من إنهاء الاحتلال
ليس غياب الإرادة السياسية لإنهاء الحرب عجزًا دبلوماسيًا، بل خيارٌ واعٍ، يهدف إلى ضرب بنية المقاومة الفلسطينية، تمهيدًا لإعادة تشكيل غزة ككيان منزوع السيادة والتأثير. فكلّ حديث عن "اليوم التالي" لا يتضمن إنهاء الاحتلال أو الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، بل يدور حول هندسة جديدة للقطاع تحت شروط أمنية إسرائيلية خالصة، تفكيك فصائل المقاومة، إخضاع السكان لإدارة تكنوقراطية مرتبطة بالمانحين، وفرض وصاية تحت غطاء إعادة الإعمار.
يعرف الغزّيون هذه اللعبة جيدًا. إنها تُختصر بتجميد القتل مؤقتًا دون إزالة أسبابه. هذه هي سياسة "إدارة الأزمة" التي يتقنها النظام الدولي حين يريد أن يتنصل من مسؤولية الاعتراف بالجريمة دون أن يمنع استمرارها، فما يجري في غزة لم يعد مجرد "أزمة إنسانية" أو "حدثًا إخباريًا"، لكنه عملية إعادة تشكيل سياسية وجغرافية وهوية كاملة تُصاغ بالنار والركام.
ليس غياب الإرادة السياسية لإنهاء الحرب عجزًا دبلوماسيًا، بل خيارٌ واعٍ، يهدف إلى ضرب بنية المقاومة الفلسطينية، تمهيدًا لإعادة تشكيل غزة ككيان منزوع السيادة والتأثير
الإبادة الأقل صخبًا
في الضفة الغربية، تتخذ الإبادة شكلًا أقل صخبًا لكنها لا تقل فتكًا عما يجري في غزة. الاقتحامات اليومية، وعنف المستوطنين، والحصار الأمني الاقتصادي، وتدمير المنازل، ومصادرة الأراضي، كلها أدوات تُستخدم لتفريغ الحياة الفلسطينية من مضمونها.
إنها إبادة بطيئة تُدار بالبيروقراطية والمال والإدارة، بحيث يُحرم الفلسطيني من حقه في أن يعيش طبيعيًا، وكل ما هو متاح أمامه هو أن يموت فقط.
خيارٌ استراتيجي راسخ
في قلب هذه الكارثة، يبدو الدعم الأميركي لإسرائيل أكثر من مجرد انحيازٍ سياسي. هو جزء من هندسة استراتيجية تهدف إلى حماية منظومة الهيمنة الأميركية. فواشنطن تنظر إلى أي إضعاف لإسرائيل كمنح مجاني لمحور روسيا–الصين–إيران، وتراه تهديدًا مباشرًا لتوازن القوة في عالم يتآكل فيه النفوذ الغربي.
التمسك بإسرائيل، مهما بلغ ثمنه على الصعيد الإنساني، هو خيارٌ بنيويّ يُعبّر عن أزمة الإمبراطورية الأميركية التي تفقد قدرتها على تبرير عنفها، لكنها تواصل استخدامه لتأكيد وجودها.
منذ إدارة ترامب، تراجعت قيم "النظام الليبرالي العالمي" لصالح مقاربة نفعية قوامها القوة والمصلحة بالشكل الأكثر فظاعةً، ومع حرب غزة تتعمّق هذه الأزمة. تحاول واشنطن اليوم إدارة الكارثة من دون أن تُحاسب تل أبيب، ومن دون أن تفرّط بتحالفٍ تعتبره آخر ركائز نفوذها في الشرق الأوسط، حتى لو كانت الكلفة المترتبة على ذلك هي إبادة شعب بأكمله.
لا تُقاس الكوارث بمعايير العدالة أو الضمير الإنساني، في منطق الهيمنة الإمبريالية، بل بمدى خدمتها للتوازن المطلوب. وهكذا تتحوّل المأساة إلى أداة ردعٍ سياسي ورسالة إلى الخصوم الإقليميين، حيث تقول وتذكّر على مدار الساعة أن اليد الأميركية ما زالت قادرة على الفتك، والكيان الإسرائيلي لا يزال خط الدفاع الأول عن النظام الغربي.
إنّ مأساة غزة لم تعد شأنًا محليًا، ولا حتى قضية فلسطينية فقط، بل باتت مرآة عالمية تعكس انهيار النظام الدولي أمام أكبر امتحانٍ أخلاقي حقيقي
غزة.. مختبر الإنسانية الأخير
اليوم، بعد مرور عامين ودخول العام الثالث من الكارثة، لم يعد ممكنًا التعامل مع ما يحدث بوصفه "خبرًا" أو "أزمة إنسانية". نقف أمام تحوّل سياسي وأخلاقي عالمي تُدار فيه الإبادة كأداة من أدوات السياسة الخارجية، ويُستخدم فيها الدم الفلسطيني وسيلة لإعادة تشكيل خرائط القوة الإقليمية والدولية.
إنّ مأساة غزة لم تعد شأنًا محليًا، ولا حتى قضية فلسطينية فقط، بل باتت مرآة عالمية تعكس انهيار النظام الدولي أمام أكبر امتحانٍ أخلاقي حقيقي. فحين يصبح الدم شرطًا لإعادة ترتيب التحالفات، وحين تُقاس العدالة بمصالح القوة، فإنّ العالم لا يخسر غزة فحسب، بل يخسر فكرته عن نفسه أيضًا.
إنها لحظة عريٍ أخلاقي للنظام الدولي، حيث يُدار الموت بلغة المصالح، ويُقاس الدم بمعيار الجغرافيا السياسية، ولا تبالي خرائط النفوذ بالجوع وانعدام المستلزمات الطبية وانتشاء الأمراض.
غزة شهادة حية على سقوط أقنعة القانون الدولي وظهوره عاريًا، لكن الذي بقي هو سؤال معلّق: كم من الجثث يحتاج العالم بعدُ كي يسمّي الإبادة باسمها؟
تسمية ما يجري على أرض غزة "إبادة جماعية" ليس بالأمر العابر، ولا هو مجرّد توصيف قانوني، لكنه فعل مقاومةٍ أخلاقية ضد انهيار المعنى الإنساني.
العالم الذي يتردّد في قول كلمة الصائبة والسديدة في وقتها ومكانها يمهّد الطريق أمام استمرار الكارثة، ويقايض العدالة بالمصالح، والحقيقة بالصمت.