16-أكتوبر-2020

كاركاتير لـ أونغ ثين هتايك/ ميانمار

في عام 1929 كتب إبراهيم عبد القادر المازني مقالًا بعنوان "طه حسين في ميزان التشكيك"، وفيه يستخدم الكاتب المصري الساخر منهج الشك المنطقي، مقارنًا بين ثلاثة أشخاص يحملون الاسم نفسه: شيخ وأفندي وأستاذ جامعي، لكل منهم أفكاره وأسلوبه وطريقته في الكلام والنظر إلى العالم. ويتساءل المازني: كيف نوفق بين كل هؤلاء؟ أو ليس من حق الأجيال القادمة أن تشكك في وجود رجل واحد هو طه حسين؟!

إذا كانت الثقافة، في عرف كثيرين، هي حافظة الذاكرة الجمعية والهوية الحضارية، فهل ثقافة الإنترنت مؤهلة لهذه المهمة الخطيرة؟

بالطبع فالمازني هنا يحاكي ساخرًا منهج عميد الأدب العربي نفسه، والذي أوصله إلى إنكار وجود الشعر الجاهلي، وامرؤ القيس، وقيس بن الملوح والعشرات من الأسماء الراسخة في التراث الجاهلي.

اقرأ/ي أيضًا: نمط المنصة.. المرحلة الثالثة في الرأسمالية

أضحك هذا المقال طه حسين كثيرًا، وظل يُضحك القراء المصريين والعرب عقودًا. ومؤخرًا تمت استعادته إلى دائرة الضوء، عندما نسبه أحدهم إلى نفسه ونشره في أحد المنتديات على فيسبوك، لتكون المفاجأة: انخرط الكثيرون في النقاش الجاد، وبرر معظمهم هذا الشك، بل أن بينهم من اعترف أنه بالفعل لا يملك دليلًا فعليًا على وجود طه حسين!

في كتابه "صياد القصص"، يروي إدواردو غاليانو تجربته مع ثقافة الإنترنت: "وبالنية السليمة لتعميق الأثر، صرت كاتبًا، أو حاولت أن أصير. أشد أعمالي نجاحًا هي ثلاثة مقالات يجري تداولها باسمي على الإنترنت. الناس يوقفونني في الشارع لتهنئتي، وفي كل مرة يحدث ذلك أبدأ بنتف بتلات زهرة اقحوان: ــ أقتل نفسي، لا أقتل نفسي، أقتل نفسي.. ولا واحد من تلك المقالات كتبته أنا".

في واقعة ثالثة، ربما تكون أشد سطوعًا، قررت هيئة البريد الأمريكية، تكريم الشاعرة مايا أنجيلو (1928 ـ 2014)، فأصدرت طابعًا تذكاريًا مهرته بعبارة من المفترض أنها درة أشعار المحتفى بها: "لا يغني العصفور لأن لديه إجابة.. يغني لأن لديه أغنية". غير أن فضيحة من العيار الثقيل سرعان ما تفجرت، إذ كتب محرر في صحيفة الـ"واشنطن بوست" مقالًا كشف فيه أن بيت الشعر الذي حمله الطابع ليس لمايا أنجيلو، بل للشاعرة وكاتبة قصص الأطفال، جوان ويلش إنغلاند، وهو موجود في مجموعتها "فنجان شمس" المنشورة عام 1967. هيئة البريد ردت ببساطة أنها كلفت، لاختيار بيت الشعر، مستشارًا ثقافيًا بارزًا وموثوقًا، والذي اتضح أنه استشار غوغل وحسب!

في خضم الحديث الغزير حول ثقافة الإنترنت، ثمة سؤال هو الأكثر إثارة للقلق: إذا كانت الثقافة، في عرف كثيرين، هي حافظة الذاكرة الجمعية والهوية الحضارية، فهل ثقافة الإنترنت مؤهلة لهذه المهمة الخطيرة؟ كيف نطمئن على ذاكرتنا الجمعية، والفردية كذلك، في عالم يبدي كل هذا الحماس للاحتفاء بالنسيان؟

لا يهدف هذا التساؤل إلى مسايرة الانتقادات المجانية الموجهة إلى المستجدات التي فرضت نفسها على الواقع وباتت مسلمات لا رجعة عنها، ولا يساير أيضًا التهويل والتخويف الذي يدمنه الكارهون لكل جديد واللاعنون لكل "بدعة". وكذلك لا يمكن إنكار المفاعيل الإيجابية لتكنولوجيا المعرفة ووسائل التواصل الاجتماعي: الهامش الواسع لحرية القول، والإطار الديمقراطي للتعبير عن الرأي، وانتشال شواغل وأفكار هامة من الهوامش ومن منطقة المسكوت عنه، والحساسية الثقافية الجديدة التي تعكس هموم الشباب وطموحاتهم وأفكارهم.. وكلها أشياء كانت مقموعة في ظل وسائل التعبير التقليدية، ولا سيما الرسمية منها..

ومع ذلك، يغدو الحديث عن الذاكرة وفيسبوك، مثلًا، ضربًا من التناقض الصريح، ذلك أن القضية التي تشتعل الليلة هنا، سرعان ما تغدو صبيحة اليوم التالي نسيًا منسيًا، ليأتي المساء بقضية جديدة تلهب المشاركين كرة أخرى.. استعراض سريع لأفكار وقضايا وآراء ووجهات نظر وتفاصيل وملاحظات عابرة وهموم معيشية وشؤون شخصية، ومع هذه العجلة الدائرة بلا هوادة ولا توقف، تتشكل الجماعات بسرعة وتنفرط بشكل أسرع، وتتغير المواقف وتتبدل الانحيازات، وينسخ جديد اليوم قديم الأمس على مدار الساعة وباستمرار.. وكأن كل شيء هنا معد للنسيان لا للتذكر وبناء ذاكرة.

قبيل وفاته، وفي مقابلة مع صحيفة إيطالية، تحدث أمبرتو إيكو عن "غزو البلهاء"، معتبرًا أن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل.. فهل يصح القول إن عالمًا كهذا يمكنه أن يكون الإطار الضامن والحافظ للذاكرة الجمعية؟

يغدو الحديث عن الذاكرة وفيسبوك، مثلًا، ضربًا من التناقض الصريح، ذلك أن القضية التي تشتعل الليلة هنا، سرعان ما تغدو صبيحة اليوم التالي نسيًا منسيًا

ولكن القلق يطال أيضًا الذاكرة الفردية، بل الذاكرة بوصفها ملكة إنسانية فطرية، وكثر هم المفكرون والباحثون الذين تحدثوا عن تشويش الأذهان الناجم عن ثورة المعلومات، "وفرة المعلومات أدت إلى ندرة الانتباه"، مؤكدين أن عصر المعلومات الذي توَّجه الإنترنت قد خلق جيلًا كاملًا من فاقدي الذاكرة، حتى أن كاتبًا اختار لمقاله هذا العنوان الحاد والطريف: "كيف جعلنا غوغل أغبياء!".

اقرأ/ي أيضًا: غوغل.. الأخ الأكبر الجديد

ورغم أننا، نحن العرب، لم نساهم في صناعة تكنولوجيا المعلومات، ولا نشارك في قيادة العولمة وتوجيه مساراتها، إلا أننا، للأسف، شركاء أساسيون في المغارم، إذ لم ننج من ظاهرة الفيضان المعلوماتي، ونتعرض يوميًا لسيل من المعلومات والصور يرهق ذواكرنا، ويحولنا إلى أناس مشوشين، فنودّع كمبيوتراتنا ونحن في حالة من العماء التام.

فهل علينا، في حال كهذا، أن نعيد النظر في مفهوم الذاكرة وارتباطها بالهوية، أم نجترح وسائل وطرائق لبنائهما على أسس جديدة ووفق شروط لم تكن مألوفة؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

جناية الإنترنت.. هل يجعلنا جوجل أغبياء حقًا؟